تيسير نظمي
الكتاب السادس
مقبرة خمس نجوم
إهداء: إلى الشاعر دانييل لوفرس
حدثني قريبي القادم من الولايات أن لديه بعض الأفكار الاستثمارية التي ينوي عمل دراسات عليها قبل أن يخسر فلسا واحدا من رأس ماله، مثل دراسة الجدوى الاقتصادية ، واستطلاع الرأي ، والحصول على أرقام المسنين وتعداد من تجاوزت أعمارهم الخمسين من الذكور خاصة، ومتوسط دخلهم ، وراح يستفيض دون أن يطلعني على أية فكرة من أفكاره حرصا على حقوق الملكية الفكرية. ولما رآني غير مهتم لحماسته الرأسمالية ونظرا لما تبقى لديه من مشاعر القرابة، بق البحصة وقال : مقبرة، مقبرة خمس نجوم في هذا البلد أفضل من تأسيس جامعة بكلفة عالية وتعقيدات الحداثة التي لن تصل إليها أية دولة من دول الشرق الأوسط، لا الكبير ولا الصغير.
فأدهشتني الفكرة حقا ورحت أسأله باهتمام عن تلك المقبرة في رأسه فراح يستعرض معرفته بالعادات والتقاليد لدينا في هذه المنطقة من العالم، وقال:
هل تعرف أننا – ويقصد رجال الأعمال- نخسر الملايين في تزمتنا بالعادات والتقاليد بدلا من أن ننشئ شركات خاصة لتقوم عوضا عنا بالمهمة؟ فقلت :كيف؟ وهنا استفاض طالبا مني الإصغاءحتى النهاية وبعد ذلك أقول له رأيي الذي لن يقدم أو يؤخر ما دمت غير شريك له لا بالفكرة ولا برأس المال.
قال: لقد لا حظت لديكم اهتماما غير عادي بالأموات عوضا عن الاهتمام بالأحياء وأن الموت كلفته لديكم عالية ماديا ونفسيا ومعنويا. فإعلانات التعازي من نعي ومشاركة عزاء وشكر لا يقرأها أحد ممن لا علاقة لهم بالمتوفى وهذا يمكن اختصار تكلفته عن طريق الهاتف النقال، فكل مشترك نقوم نحن كشركة بجمع المعلومات عنه وعن أرقام هواتف أقربائه وأصدقائه ومعارفه وزملاء عمله وجيرانه لنقوم عند وفاته بإرسال رسائل النعي وتحديد مكان وساعة الدفن تاركين لهم الرقم الممكن الاعتذار عليه، وبعد فترة نقوم تلقائيا بدعوة هؤلاء الذين تم مراسلتهم لحفل التأبين المقام على شرفه وشرف أهله وأنسبائه، سيكون بالطبع لدينا متحدثين ومقرئين ولغتهم العربية سليمة ويجيدون ما يلزم من اللغات الأجنبية ولهم زي موحد كذلك يتناسب مع حجم اشتراك المشمول بخدماتنا وسوف نريح أهله بانتداب محام من الشركة لتقسيم الإرث والممتلكات على الورثة وفق نظام يصون للمرأة حقوقها أيضا.
سوف نجعل أهل المتوفى يتفرغون للحزن وليس للمشاكل والمناكفات ، كما سنصون وضعهم الاجتماعي بمواصفات للخدمة التي نقدمها كأن نجعل للمشترك قبرا يكون موضوع حديث الناس لأيام وشهور من حيث نوعية الخط والحجر المستخدم لبناء الضريح وفسحة مزودة بالمقاعد لزواره في الأعياد والمناسبات كما سنكون لنا أفضلية باستخراج شهادات الوفاة والتبليغ عن الحالة وربما تسجيلها في الملفات وإدخالها على الحاسوب قبل الوفاة لتكون جاهزة، وبالتالي ما على الميت سوى أن يموت ويكون متفرغا لموته كي نرعى مستواه ونجعله غير منشغل سوى براحة البال وسوف نطور بالمناسبة الفن التشكيلي بالبلد إن نحن رسمنا على القبور بعض اللوحات المناسبة التي يفضلها الأهل والزوار وسنجعل كل شيء منظما في حفلات التأبين وبيوت العزاء وعلى الرقم الوطني وحسب المكانة الاجتماعية للرواد فلا يجوز أن يجلس الفقير المعوز قرب الغني الموسر حرصا على مشاعر الطرفين في هذه المناسبات.
ولما لاحظ امتعاضي وتجهمي المفاجئ استدرك قائلا أنه يقصد تنظيم العملية وعدم وجود فجوات هائلة في الاختصاص والثقافة والمستوى بين الحضور حيث لم تعد صلة القرابة العشائرية هي المعيار للربط بين اثنين مختلفين في كل شيئ سوى من اسم العائلة والحمولة في نهاية أسمائهم. فقلت له موضحا أن ليس هذا ما يزعجني ضاربا كفا بكف على طريقة استاذنا الجليل خليل السواحري طيب الله ثراه في شفا بدران حيث اختار المكان بنفسه حسب ما سمعت، وقلت هامسا : خرب بيت الشباب والله ما راح يلاقوا شيئ يعملوه عندما تباشر هذه الشركة أعمالها.
سمعني فاستفسر : أي شباب تقصد؟
طمأنته أنهم لا يفكرون بمزاحمته مثلما يزاحمون خصومهم في الانتخابات. لكنه ظل متحفزا لمعرفة هويتهم السياسية والمهنية وطبيعة عملهم بل واستفسر محتدا إذا ما كانوا قد حصلو فعلا على قطعة أرض لمشروعهم الذي عبرت عنه بضرب كفي ببعضهما البعض وبكلمة "خرب" بيت الشباب. فطمأنته أنهم ليسوا على تلك الدرجة من الدهاء التجاري ليزاحموه، لكنه ظل مصرا أن يعرف من يكونون. قلت له : لا تقلق أنت إنما أنا الذي من حقه أن يقلق الآن على رابطة لن تجد ما تفغله بعد اليوم للكتاب.
فاستبشر خيرا وانزاحت غمته فقال مبتسما : صحيح لقد نسيت أن أقول لك أننا سوف نطبع كتبا أيضا بالراحلين ونكتب عنهم كل كلام طيب وأنهم كانوا رحمهم الله مبدعين حتى – وابتسم- لو لم يكونوا كذلك وإذا كان المشترك على قد حاله تقوم شركتنا بطباعة سيرة حياته كما يكتبها الكتاب عندكم فقد لاحظت ذلك لديكم منذ سنوات وأنتم تجيدون هذه الصنعة والشهادة لله.
قلت وقد راودتني الرغبة بالاشتراك: ماذا عن مشروع الجامعة الذي حدثتني عنه سابقا ؟ ألم يكن ذلك مجديا ؟
فواصل وقد اختفت عن وجهه الابتسامة:
كنت محقا عندما نصحتني أن أخفي أصولي العربية وأتصرف حسب مقتضيات الجنسية الأمريكية التي خسرت لأجلها قطعة الأرض التي ورثتها عن الوالد والتي لو ماتزال مسجلة باسمه لما اضطررت لدفع أضعاف ما بعتها به مضطرا عند عودتنا من الكويت ، فقد كنت مضطرا لبيعها، واليوم أصبحت مضطرا لشرائها كي نبني الجامعة عليها نظرا لموقعها الاستراتيجي ذاك. سهوت عن نصيحتك وتصرفت بطيبة فأحالوني إلى كل ما يدخروه لنا من روتين وفي كل مرة أراجع بها يقال لي أن الوزير مشغول ولم يطلع على طلبكم بعد، وانتهاء بأسعار الأراضي ،غيرت فكرة الاستثمار تلك بما أوحى لي به وضعك أنت.
فقلت مندهشا : وما هو وضعي بالضبط؟
فقال دون تردد: جئت اليوم أزورك.
قلت وأنا أفكر حقا بمبلغ الاشتراك في مشروعه الجديد ، ممن أستدينه، وكم هو، وهل سأحصل على تخفيض منه بصفة القرابة أو الماضي السحيق المشترك:
ما به وضعي ؟
قال: ألم أعدك بأن تكون عضوا في مجلس إدارة الجامعة التي كنت أنوي تأسيسها لديكم ؟
قلت: بلى ، هذا صحيح.
قال: أدركت بعد أن سمعت من الأقارب عما انتهيت إليه أنت وغيرك في البلد أنك أول من أوحت ظروفه لي بالفكرة وبأن أكافئك ،كأول عضو مشترك دون أن تسدد لنا اشتراكاتك الشهرية، بهذه الزيارة.
لم أفهم ما رمى إليه تماما، إلا بعد أن لحظت في عينيه تعابير الأسى والعزاء والحزن الحقيقي، وكنت قبل لقائه في الفندق أظن نفسي ما زلت حيا أرزق.
لاحظ هو ما دار بخاطري فشرع ليعزيني بنفسي يتحدث عن آخرين لا أدري مقصده في ذلك ، إن كان يريد إقناعي بالمشروع أم فعلا ليقوم بواجب العزاء الذي تمليه عليه صلة القرابة ، والأهم أيضا، التاريخ المشترك.
قال: هل تتذكر عادل سلامة ؟ ودون أن ينتظر الإجابة، واصل: كان يتنافس مع وليد الشمالية على المركز الأول، في الصف الثاني إعدادي، عام 1966 ، وكنت أنت ، متربعا على المركز الأول، في الصف الأول إعدادي .. هل تذكرته الآن ؟ حسنا لقد حمل منذ ذلك الحين إرث هزيمة الأنظمة العربية وكافح حتى أصبح طبيبا في مخيم البقعة، مع أنه لو لم يكن فلسطينيا لأصبح وزيرا للصحة في الأردن.
وقبل أن يتيح لي السؤال عن أخباره قال دون مقدمات: مات. مات دون أن تقوم رابطة الكتاب بحفل تأبين له أو لأكون منصفا نقابة الأطباء. فهل تشك للحظة أن من دأبت رابطة كتابكم العتيدة لأكثر من ست سنوات وما تزال على إقامة حفلات التأبين لهم كانوا أكثر نضالا وعلما وموهبة من كتاتيبكم الذين ليس مهما قيمة ما يكتبونه إبداعيا بقدر قيمة ما يتقاضونه على ترهاتهم من نقود. رابطة كتاب تحتفي بالموت بدل الحياة لا علاقة لها بالفنون الجميلة على الاطلاق، سواء كانت أدبا أم فنا تشكيليا أم موسيقى أم مسرحا. فهل تصدق أن 625 عضوا فيها وجدوا لانتظار التعزية بك وينتظر بعضهم أن تبتلعك الأرض لمجرد أنه غير قادر على أن يكونك دون خسارة ممتلكاته من الأراضي كما خسرتها أنت وكما خسرتها أنا في الضفتين ؟
عند هذه اللحظة بدأت أشعر أنني أيضا يتوجب علي تعزيته بوالده الذي سمعت أنه توفي في الكويت قبل أغسطس المشئوم بسنوات ومن محدثي بدأت أدرك أن والده وضع كل ثمرة شقائه في الخليج في قطعة أرض اضطر لبيعها هو لما وجد نفسه عاطلا عن العمل وهو المهندس قبل أن يصل الأردن عائدا من الكويت المحتلة ، ومن ثم، لم يعد ممكنا أن يعود لعمله السابق في الكويت المحررة، فلم يجد بدا سوى بيع الأرض التي ورثها عن أبيه ليتمكن من السفر إلى أميركا حيث يعمل أستاذا في إحدى جامعاتها الآن ونال الجنسية.
ظل يسهب في الحديث عن الماضي بما فيه الماضي الشخصي لي في سيلة الظهر وعن أسماء لم تسعفني الذاكرة في رسم أية ملامح لها بينما كنت أنا قد بدأت أقتنع بالفكرة لأنها تحصيل حاصل حيث تقوم بمهامها الرابطة دون أن يكون لنا حصة عادلة فيها حتى في التأبين فلماذا أستكثر عليه أن يشكل مؤسسة أو شركة عصرية تعفي رابطة للكتاب من مهامها في التأبين التي يتبروز أعضاؤها في الصحف بفضلها وفضل من رحلوا كمسؤولين جنبا إلى جنب مع الوزراء وأعضاء الحكومات والأمناء العامين للوزارات. أليس البلد بعد هذا كله مقبرة للكفاءات العائدة من الخليج؟
قبل سنة كنت قد قابلته بالصدفة في محل للانترنت وقد عرفني من ملامحي أولا كوني أكبره سنا قبل أن أعرفه، وراح يتحدث لي بحماس عن فكرة الجامعة والرسوم المخفضة لها وعن ضمانته العمل لخريجيها كونها مختصة بالتعلم عن بعد وبتكنولوجيا المعلومات وعن تصميمه لمبناها على شكل حاسوب ضخم على طريق المطار، واليوم ، بعد قضائه أقل من سنة في عمان ، يتحدث لي عن مقبرة !
ولو لم يتحدث عن مقبرة لتحدث عن مستشفى للطب النفسي يقدم لنزلائه خدمة غير الطعام البائس.لكنه في كل ما سمعه عني لم يكن يعرف أن عمري الأدبي يكبر الرابطة بسنتين حيث تأسست عام 1974 ولم تقبل بي عضوا فيها إلا صيف عام 2007 ولم يعرف أيضا لا هو ولا ورثة وينستون تشيرتشل أنني سجنت سنتين على ذمة لا ئحة دعوى بالشروع بالقتل مكررا ثلاث مرات كوني اتهمت بأنني دهست أصبع رجل بسيارتي وأنني ما زلت مشكوكا في أمري ومتهما بالعنف والإرهاب والجنون أو المرض النفسي لدى المحاكم الشرعية ورئيس سابق لاتحاد الكتاب العرب الذي كان مقره عمان. كل هذه العجائب السريالية لم تخطر له ولا لجورج بوش على بال، وهو يحسن الظن بالبلد إن نجح مشروعه دون أن يوصله للفحيص.
عند هذا الحد قاطعته قائلا: أنصحك للمرة الثانية ، أن تغادر البلد، لأن ورثة وينستون تشيرتشل سيقيمون دعوى عليك بسرقة المرحوم وورثته ، ذلك أن التاريخ نفسه سجل لهم حقوق الملكية الفكرية في وثائق كانت تعتبر سرية لأكثر من عقدين لأكثر من دولتين ، ليس من ضمنها أية دولة فلسطينية.
12-17/9/2007
حمارنا لا يرغب حمارتكم
-1- المقدمة
السيد صاحب الكلب يعلم أو لا يعلم أن نباح كلبه المتواصل على حمارنا أستمر يومين و ليلة قبل أن يخرسه أحد ما بقطعة لحم فاسد أو دجاجة معطوبة أو ما تبقى من فطائس عيد الأضحى الأخير. و القصة و ما فيها أن حمارنا الأعرج لا يعرف الكثيرون عنه شيئاً غير الأقاويل. بل أننا خشية أن يلحق بنا العار لم نتطرق من قبل للأسباب الموجبة لعرجته التي نحن سبب فيها، و هذا مبرر عنايتنا به على قدم المساواة بمثل ما نعامل به ما تبقى لنا من خيول بعد أن بيع بعض منها و نفق منها الكثير في جولات خاسرة. و السيد صاحب الكلب حتى لو علم بتفاصيل الحقيقة التي غالباً ما تكون مملة لأمثاله لن يبيع كلباً من أجل حمار أعرج. قد يستبدله، هذا صحيح، بغيره من الكلاب حسب قوتها و لياقتها و خدماتها و تكلفتها، لكنه لن يستبدله بحمار، فما بالك إن كان الحمار أعرجاً ! هل يعيش هو الآخر بفضل حمار أو حمارة؟ خاصة بعد أن غنم بيتاً من الثورة و أصبح لزاماً عليه حراسة أشياء كثيرة و من ضمنها البيت المشيد على شكل مشروع فيلا يمكن ركوبها بطابق آخر، في حي الضباط و قرب مساكن المتقاعدين منهم، في حين أننا نحن، أقصد أمثالنا، لا يجازفون بركوب حمار أعرج أو خيولاً عربية أصيلة باتت طيعة و مدجنة في إسطبلات القصور لامعة نظيفة ليس مثل خيولنا التي زججنا بها في الملاجئ و الثكنات أو أطلقناها في فضاءات جنوب شرق البلاد أو شمال شرق أو جنوب غرب أو شمال غرب البلاد،بل في شرق شرق وشمال شمال البلاد أو الأمة، لا، شتان بين ركوب العقار و ركوب الخيل. أما حميراً فمنذ تلك الواقعة لم نعد نركب لأن حمارنا كان أول الرافضين و عندما رفضنا نحن أن نفهم كسرنا بجهلنا ساقاً له و أصبح في صورته الحالية و سمعته الحالية و قابلاً أن يتطابق مع كل الأقاويل. صبور يذكرنا بما نحن عليه و بأقوالنا المأثورة و "إن الله مع الصابرين".
-2- المؤخرة
بدأت الحكاية يا أنام و يا سامعي الكلام إن سمعوا و ناموا بكثير من الزهو الذي أصاب العشيرة ،عشيرتنا، عندما تقدمت على خجل سيدة الحمار من حمولة أخرى طالبة العون في المقلب الذي شربته عندما أقدمت على شراء حمار بمبلغ زهيد و خجلت أيما خجل أن تعاينه إن كان ذكراً أم أنثى ليتبين لها أنه حمارة لا تقوى على حمل شيئ، ففكرت على طريقة بطل قصة" وجه البقرة الميتة" للراحل كبير من فكر و ناضل و أشعر في بلادنا، و ليس الأمين و حسب على قرميتنا بل أبو الأمين طيب الله ثراه، فقالت لنفسها، ما دام الأمر هكذا في بلداننا ، ضاحك و مضحوك عليه، و بائع و مبيوع، و حمار و حمارة، و ليست خمارة. و خاسر و خسارة، فلا بد لعلاج سوء الحال و المآل أن تتصرف بشطارة فتجد سبيلاً لأن تحمل الحمارة من حمار و تلد قراً أو قرة أو قرار. و لما كان حمارنا شديد البأس شبق أيما شبق و ربيان بين صهيل الخيول حيث نقول نحن في قرانا عن أنثى الحصان فرس فقد كان يناغي رغم حمرنته الفرسات البيض و الحمر في مغارة أجدادنا الأوائل لا يفرق في إشهار سلاحه بين لون أو جنس أو عرق . بل و حتى ذكور الخيل التي كانت تقمعه و تحد من تطلعاته نحو إناثها تم بيعها أو التضحية بها في الميادين و الساحات. و لم يبق في بيت أجدادنا الأوائل سوى حمارنا ذكراً بين ما تبقى من الخيل و صوناً لسمعة الخيل التاريخية لم تلد لنا أية فرس بغلاً لا سمح الله و لذلك قصدتنا تلك المرأة الغلبانة لحل مشكلتها حسب الاختصاص. يوم ذاك ادعى كبير البيت عندما أسرت له زوجته بالأمر أن حمارة المرأة الغلبانة عطشى و جائعة، و هي كذلك على أية حال، و أن حمارنا كذلك ، و هو كذلك في كل الأحوال لأن خيولنا تأكل زاده و زواده، و إن علينا نحن الفتية المراهقين أن نسوقهما سوياً للخلاء، ففهمنا رغم صغر السن في الستينيات من القرن الماضي المسألة. و بزهو عشائري قبل أن يتحول إلى زهو تنظيمي ربتنا على ظهر حمارنا و ربتنا على ظهر حمارتها بتشف عشائري أن حمارنا هو الراكب و حمارة حمولتها هي التي ستحمل قرار الود و المصالحة بين حمولتين من حمائل البلد، أي بين الحارة الشرقية و الحارة الغربية أو بين عائلتين طالما سمعنا أن ثمة ثارات قديمة بينهما و أنه لولا الغلب الذي حل بالمرأة الغلبانة و الكبرياء الذي كان له معنى غامض لدى حمولة المرأة بأن لا تقع علاقة غير متكافئة بين الحمولتين حتى في ما تمتلكانه من ماشية أو دواب و الزهو كذلك بالنفس لدى عشيرتنا التي ما أن خطت المرأة خطوتها الأولى بحمارتها نحونا حتى خطونا معها و لما تطلبه عشرات الخطوات نحو السهوب والبراري. لكن الأمر لم يسر حسب النوايا الطيبة و صفاء السريرة والطوية الذي أشك بوجودها حتى اليوم، فالحمار بعد أن شرب و أكل وكذلك الحمارة، لم ينشأ أي ود بينهما أو إثارة. بل أن حمارنا شنّك أذنيه لدى سماعه غزل النهيق لحمارة بعيدة لم تكن في متناول يديه، و كان في طريقه أيضاً قبل أن يشرب أو يأكل يشمشم روث حمارات أخرى كلما صادف واحدة منها في الطريق الترابي المزدان بأزهار و ورود ربيع ما قبل النكسة، نكستنا، و قد خيبّ ظننا و خاب معه رجاء المرأة و توسلها. و حينذاك أخذتنا الحمية و الفزعة لامرأة استجارت بنا فقطعنا المطاريق أنا و أخوتي و أبناء عمومتي و بقوة الشقاء رحنا نضرب حمارنا دون أن يستجيب. و نقربه منها، من مقدمتها و من مؤخرتها فلا يستجيب. أما هي فقد كانت خائفة مطواعة و لم تكن بحاجة لأية لكزة من جانبنا لتقترب من حمارنا. قال كبيرنا أيام ذاك: إنها حردانة، و كفى. و قال آخر: لا يريد و الأمر ليس بالقوة. و قال ثالث: دعونا نبتعد عنهما فلربما يخجلان أو يتهيبان منا. و قال رابع و خامس و سادس أيام ذاك. آه من أيام ذاك و من الخامس و من السادس. انتكسنا يا سادة فماذا نفعل نحن الفتية الذين كانت أعمارنا لا تتجاوز الخامسة عشرة؟ و ما العمل؟ جربنا كل الوسائل، و لم تجد نفعاً. حمارنا غير راغب بحمارتهم. و الأقاويل في عموم البلد شاعت و انتشرت أن حمارنا شوهد يسير جنباً إلى جنب مع حمارتهم. و حمولتهم شرعت حتى قبل العودة تتوعد و تهدد باغتيال الجحش و الخيل و ربما ذبحي أنا، إذ كانوا يعتبرونني مثال حمار جدي رحمه الله و بالاً على ورود القرية و نوارها منذ أن عدت مع أسرتي من بلاد برة ممشط الشعر حسن الهندام و معطر الملابس و عامل تسريحة " كوكو" منذ صغري. ما العمل يا شباب؟ تساءلت. فقال المتمرسون بالسمعة العشائرية أكثر مني من أبناء العمومة: علينا بحمار آخر لأن حمارنا مقتول مقتول لا محالة. فقلت مدافعاً: لكنه لم يفعل شيئاً يستفز الحمولة الأخرى؟ فقال: حتى و لو.. فالسمعة شاعت في البلد عنه و عنها. و شرف الحمولة الأخرى أصبح مهاناً و المرأة أورطتنا. قلت أيضاً مدافعاً: لكن الحمارة لن تعشّر و هذا دليل براءة حمارنا مما قد ينسب إليه. فقال محتملاً براءتي و تحضري قليلاً: قد تحمل من حمار آخر و التهمة يأكلها حمارنا. و عدنا بخفي حنين ممطرين حمارنا باللكمات و المطاريق و العصي و الرفس كأننا أصبحنا نحن الحميرالذين لم يفهموا لماذا خذلنا حمار لنا هو حمارنا. و في طريق العودة كان أبناء الحمولة الأخرى قد نصبوا لنا كميناً بعصي أشد بأساً مما نحمله من عصي ومطاريق. و هكذا يا سادة أسفرت المعركة التي خضناها أيام ذاك عن كسر في إحدى قوائم حمارنا و عن رضوض في المؤخرة.
-3-الوسط
السيد صاحب الكلب لم يفهم حتى الآن أن الحمارة مريضة، و لا السيدة صاحبة الحمارة كانت صريحة بما يكفي لتقول لنا أن حمارتها مريضة و ليس لديها ثمناً لعلاجها، فقد كان العلاج مفتقداً حتى للبني آدميين أمثالنا أيا م ذاك و لم تكن البلاد قد تطورت لدرجة أن عيادة خاصة تم إنشاؤها لعلاج الكلاب و القطط والحمير و ما شابه في مدينة الفحيص الأردنية ترتادها كلاب الصويفية وعبدون و الجبيهة وإن كانت مناطق أخرى مثل طبربور سائرة على طريق النهوض والتطورواللحاق. الحمارة كانت مريضة و لذلك ماتت بعد أيام قليلة من خروج الحمار مكسوراً من تلك المعركة. و المسألة باختصار أن الحمار فهم ذلك ، أي كونها مريضة، قبلنا و لم يغادر مثلنا، بل ظل وفياً لما يشم ولما يحس ويفهم لوطنه، أجل، كان يمكن تلخيص الحكاية و باختصار دون نباح و دون عواء و دون تشويه سمعته على أمر لم يقترفه. لكن الحقيقة شيء و وسائل الإعلام التي تطورت شيء آخر. كان يمكن اختصار المسألة بكلمات قليلة:" حمارنا غير راغب بحمارتكم" يا سادة.
4- - خاتمة الخواتم
قال محدثي الساهر من فرط عواء الليل والمعدة: وما علاقة صاحب الكلب بالمسألة؟ فقلت بعد أن انتهت الحكاية: فتش عن البغل قال: وما علاقة البغل؟ قلت: إذا كانت الحكاية بكل هذا الوضوح ولا توجد بغلة أو بغل فلا وجود أساساً لصاحب الكلب. وما دمت لم تفهم العلاقات بين الناس وبين الكلاب وبين الخيول وبين الحمير فإن وجود البغل هو الذي يجعل الأمور غامضة لأننا غائبون عن الحقيقة إن كان في عصرنا من أب أم من أم مارس أحدهما الخطيئة وكان البغل نتيجة. فما بالك والحكاية فيها ما فيها من الوطن السليب ومن السياسة والتياسة والكياسة والساسة؟
------------------------- للقصة مرجعياتها في الأدب الفلسطيني مثل مجموعة " حال الدنيا " القصصية لتوفيق زياد ورواية إميل حبيبي " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"
محنة الغراب
ليس احتجاجا، و لا استدرار عطف. ليس استدعاء فكل من في البلد كتب استدعاءات لم تستجب أو تقرأ في الغالب. و ليس تظلماً كذلك و لكنه إقرار بواقع حال. ورثت سلالتي ليس أكثر، حتى في اللون لوني أسود. و اعتدت أيتها الدجاجات البيّاضّات المتربيات إعداداً فقط للذّبح، على التنبيه لوقائع مقبلة فأسمعت صوتي لمن يشتمونني و كأنني أنا الذي جلبت لهم الكوارث و المصائب و الحروب و الغزوات و التناحر. أنا غراب و لا أخجل من كوني غراب، فهل خجلت الديناصورات و التماسيح و أسماك القرش أولاً كي أقوم بمراجعة ذاتية لما أنا عليه منذ الأزل؟ لم أوهب موهبة العقرب على أية حال كي أقوم بلدغ نفسي مع كل حصار. فالعقرب لديه ما لديه من الكبرياء فلتجربوا قتله، حاصروه بالنار من كل الجهات و ضيقوا عليه الخناق لتروا بأنفسكم ما ذا سيفعل. إنه لا، لا يمتلك أسلحة نووية و جرثومية و اقتصادية ليحاربكم بها و لا يوماً كان يمتلك الدولار. لكنه يأبى عدم التكافؤ في معارككم ضده فيوجه سلاحه نحو نفسه قبل أن تغركم انتصاراتكم عليه. لا لم أوهب موهبة الضفدع لأعيش في اليابسة و ألوذ بالماء فأنا أمتلك موهبة الهواء. لا صوت جميلاً لدي كي أسمعكم إياه، فالفلسطينيون و العراقيون امتلكوا أصواتهم ووصلت استغاثاتهم للأمم المتحدة فماذا فعلتم لهم؟ بالنسبة لي لا أملك من الأمر شيئاً سوى هذا اللون و تلك السلالة و ما أقوم به بفعل التكوين، فلم أدّع أنني بلبل أو عندليب، و لا تقمصت الببغاء الجميلة الألوان التي تزينون بها بيوتكم. أنا غراب و مشرد أيضاً ليس من مهماتي الانحياز لمسراتكم و أفراحكم و لياليكم الملاح. و أنا صابر رغم كل كراهيتكم لي، رغم استخدامكم لإسمي في كل ما لا يسر. و هل سرّتكم الحياة و الحرية مثلي؟ هل لديكم الأجنحة التي لدي كي تطيرون من غصن إلى غصن؟ هل باستطاعتكم فرض الإقامة الجبرية عليّ؟ هل تمنعون عني فضلاتكم مما أقتات عليه و على ما توفره الطبيعة لي ؟ أنا الغراب الأسود ليس أكثر من ذلك و لا أقل. لي عين ترى و لي حواسي و ما ليس لكم. البومة أيضاً تعاني مثلي و ليس العقرب أو الأفعى التي تقتلونها لتستفيدون من سمّها أو جلدها في الدواء و في الأحذية و في مصنوعاتكم الجلدية الفاخرة. أنا الغراب الذي تصطادونه و تأكلونه بالخطأ. لي لحم تماماً كما للفلسطينيين و العراقيين لحم استبحتموه في المجازر و الحروب و مؤتمرات القمة العربية و في غالبية دولها الأعضاء. أنا الغراب و قد فزت بالهواء و الريح و النبوءة و عدم امتلاك هوية أحوال و جوازات سفر. أنا الغراب الأسود الذي لا ينتحر و سيظل فوق رؤوسكم ليس تاجا و لا علماً لدولة أو كيان. فوق رؤوسكم ليس إكليل زهر أو تاج عرس أو صلعة لامعة أو شعراً أو هواء. أنا فوق رؤوسكم و لست في متناول أيديكم. فوق رؤوسكم و مهرجاناتكم العسكرية و عقاراتكم و سياراتكم ليس أكثر من غراب أسود. للعقرب برج و للحوت برج و للجدي و للسرطان. ليس لي برج يا سادة، لأنني مدركٌٌّ أنني برجٌٌ بذاته قائمٌٌ متنقلٌٌ طائرٌٌ لكنه لا يخفي الحقيقة.
مجـــرد تأخيـــر
الحراس ، بعيون متيقظة رصدوا تحركاتي ، ردود فعلي ، ملامح قامتي ، خطواتي الثابتة ، طريق الليمبو Limbo الذي أتيت منه ، الذي سأعود فيه ، غير عابئ لهذا الخطأ البسيط . الحراس الذين انفقست توقعاتهم ظلوا مشدوهين حائرين. كأنما مجرد وصولي هكذا متأخراً و قلة مبالاتي عن هذا التأخير أتلف معني وجودهم و أبطله علي نحو مهين. فقد توقعوا احتجاجي أو إلحاحي أو ربما اعتذاري أو توسلاتي. لكن شيئاً من هذا لم يحدث. توقعوا أن أستعيذ أو أن أقيم الصلاة. توقعوا أن أتذاكي قليلاُ أو أن أمثل دوراً ما. هناك علي الأبواب التي يحرسونها، الأبواب المغلقة ليس لأنني وصلت أنا تحديداً و لا لأنني وصلت متأخراً، بل لأنهم يعلمون تماماً ما يحرسون و من يحرسون و ممن يحرسونها أبواب الجنة! الحراس ، ذهلوا ، عندما أقفلت راجعاً دون أن أترك بالباب عريضة أو حتي استدعاء ، بل دون أن أترك تظلماً ما أو مجرد استفسار. و كيف لي أن أفعل مثل ذلك و أنا أعلم أنني وصلت متأخراً ؟ هناك. بل وأعلم أن الناس، كثيرا من الناس، تسابقوا و غذوا الخطي نحوها صائمين أو ملتحين، مقصرين، وصلت عرباتهم و لورياتهم محملة بالحسنات. هناك . إلي هناك ، حيث دخلوا لنيل الثواب و البركة و اقتسام الخير المكتوب تحيطهم الحوريات و تناغيهم ظلال القصور و الحدائق و الأنهار ، حيث لا ممات و إنما الخلود في جنائن الخلود. هناك ، هم الآن جميعاً في حور عين و الأحباب يحيطون بهم و الثمرات و فائض رأس المال و ما نجم عن الزكاة و فعل الخير و إطعام الطير و عدم التنكر للغير. أجل. دخلوها سالمين مكرمين غانمين حيث لا متسع لي الآن بينهم. أجل . فقد وصلت متأخراً بعض الشيء بعد أن اكتظت الطرق بمن ازدحموا علي أبوابها و تكاتفوا و تآزروا و تدافعوا في يوم النفير. لا لم أكن ساعتذاك في سابع نومة و لا كان منامي مزعجاً بالشخير. بل كنت أروض نفسي علي عدم التسرع في المشي أو في الأكل أو في حتي في فعل الخير. وكان في طريقي ما يسوغ لي أن أتأخر. و كان طريقي بحد ذاته قد أصبح طريقي الذي تصادف أنه فعلاً يفضي للجنة. كنت قد صادفت ما صادفت و فعلت ما اقتنعت أنني فعلت. و سعدت أيما سعادة أنني فيه لست مزاحماً علي ما ليس لي ما ليس بي و ما ليس لأحد. فقد صادفت عجوزاً يائساً لم يستدل علي قبره فأعنته علي احتمال البلاء و قدته إلي حيث استراح وكنت أيضاً قد تأخرت قليلاً في مواراة الجثث علي الطرقات بالتراب وكنت قد تأخرت فعلاً في حراسة النملة و حراسة الفراشات فوق ذات قبر و حراسة السماء السماوية اللون و البحر الغادر و الشعب الثائر. كان لدي ما أفعله في الطريق، نعم الطريق، فهو لم يفض إلي مجزرة و لا إلي لا شيء، و لا إلي ليل و لا إلي تيه أو صحراء. لكنه حقاً طريق وستدهش أنك فيه انقدت الباب بعد أن تمهل الحريق. و ما كان الباب لا شيء و لا كان سراباً. فالحراس هم أيضاً إن هم إلا بشر مثلنا و بالباب ما عادوا غراباً. باب الجنة الوردي. الباب الكبير الكبير اللامع بالضوء و المضاء بالأضواء الخافتة هاهو اليوم قد امتلأ بالأسماء. وكل من فازوا في نهاية المطاف. لكنني و قد وصلت ما وصلت أدركت أنني وصلت و عن أول الطريق ربما ضعت و ربما انحرفت. لكنني بعد أن فازوا بما فازوا أسلمت نفسي للسكينه و الصبر و تريثت كي لا أضل طريق عودتي أو أنسي أنني فزت حقاً بالطريق. اليوم فعلاً أصبح لي طريق فعلام العجلة و التكالب و الرفيق. في طريق عودتي إلي ما لا أعلم ، أدركت أنني مهما مشيت و مهما طالت الطريق قد فزت بالحياة أولاً لأنــــــــــني برغم كبر السن لســــت بغريق. و لا أنا مقتول ولا أنا قاتـــل. و لا هبّ بأمثالي الحريق. هكذا أقفلت راجعاً أحمد الله ألف مرة و مرة أن جهنم بلا أبواب. --------------------------- AZZAMAN NEWSPAPER --- Issue 2059 --- Date 15 / 3 /2005 جريدة (الزمان) --- العدد 2059 --- التاريخ 15 / 3 /2005
مناقيش بعيدة
إلى رولا فتال
قالت وعيناها دافئتان بالمعنى والفهم والترقب:
· إنها قصتك ، ألم تحس بذلك ؟
وبقيت تنتظر ردة فعلي على عرضها المسرحي . أما أنا فأبقيت عينيّ على العرض الذي أخرجته هي وتنتظر مني الآن أن أبدي وجهة نظري به سلباً أو إيجاباً وفي نفس الوقت كنت قد أدركت من نغمة صوتها بصدق أن ثمة فهم خاص ما يزال عميقاً من نظرة عينيها ومن دفء صوتها الذي خاطبتني به عاتبة على هذا الصمت الذي أوصلني إليه العرض.أدركت ان كثيراً من المعاني الإنسانية ما تزال دفينة لديها و لم يتمكن العرض الذي أخرجته بنصه و قدرات ممثليه و طريقته من إيصال كل ما لديها إليّ أو للحضور . لذلك بقيت صامتاً طالما أن العرض يتعلق بالمرأة. وقبل أن نقول شيئاً آخر حان موعد تحرك الحافلة التي ستغادر بها و بفريقها المسرحي إلى دمشق فودعتها على أمل أن أفرغ بعد جلبة المهرجان و اختلاط الحابل بالنابل مما هو غير حقيقي و أن أتصل بها هاتفياً كي أتعرف إليها أكثر.
" إنها تجربتك، ألم تلحظ ذلك؟"
و بعد أسبوع أدرت ذات مساء أقراص الهاتف الدولي فاستجاب في الحال بسرعة تمنيت لو ترددت قليلا أو كان خطها الهاتفي مشغولاً بمكالمة أخرى.
· ألو مساء الخير
· مساء النور ،
جاء الصوت طفولياً لأعرف فيما بعد أن المتحدثة على الطرف الآخر تكون إبنتها .
· و متى ستعود الماما عمو؟
· خلال ساعة، و ستأتي لنا بالمناقيش التي وعدتنا بها.
· إذن ابلغيها أنني سأتصل بعد ساعة أو بعد ساعة و نصف ريثما تأكلون المناقيش مع الشاي الساخن،
فضحكت إبنتها الكبرى مقترحة أن أتحدث أيضاً إلى أختها الصغرى فأكون قد تعرفت على العائلة و كنت قد علمت من المكالمة الأولى أن الصديقة تعيش لدى والدتها مع أطفالها دون وجود علاقة زوجية سابقة و دون عيش والد بناتها معها فازددت تفهماً لها و لم تعد علاقتي بها منذاك علاقة كاتب أو ناقد بمخرجة مسرحية. ثمة معاناة إذن وراء العرض المسرحي تجعل القصة اثنتين في واقع تجربتها هي و ربما من واقع تجربتي أنا أيضاً الذي كف منذ زمن طويل عن لعب دور الزوج في حياته المتأخرة في السن و الذاهبة عميقاً في العزلة.
بعد ساعة ونصف أعدت الاتصال فاستجاب الهاتف بسرعة أيضاً .
· مرحباً عمو.. هل عادت ماما؟
و فجأة أسلمت الفتاة سماعة الهاتف لجدتها لأمها.
· مساء الخير ياابني
· مساء النور.. كيف حالك و كيف صحتك؟
ثم قمت بالتعريف بنفسي فلقيت الترحيب المناسب و الاعتذار عن تأخر إبنتها التي ذهبت بمفردها لإحضار المناقيش. و لم أخف قلقي رغم أنني و والدتها حاولنا كل أن يبعث الطمأنينة في نفس الآخر حول التأخير في جلب المناقيش. فلربما التقت في طريق الذهاب أو الإياب بصديق أو صديقة و انخرطا في حديث و شجون المسرح و الإخراج و المهرجانات أو الاتهامات و كل ما هو مأمول و مرتجى في نفوس و عقول و أحلام الفنانين. و هكذا أعربت محدثتي أيضاً عن شكرها لاهتمامي و عن قلقها على موازنتي الهاتفية حيث أن المكالمات الدولية عادة ما تكون مكلفة لأمثالنا عندما يتحدثون بحميمية و دفء لا يحسب للمال حساب في مثل هذه الحالات. أغلقت السماعة و قد ازداد قلقي على تأخرها.
في الساعة الثانية عشرة ليلاً اتصلت رغم أننا اتفقنا في نهاية المكالمة الثانية على أن ترن رنة واحدة على هاتفي لتشعرني بعودتها عندما تعود و المناقيش التي أشك أنها ما تزال مناقيش ساخنة صالحة للأكل الشهي في تلك الساعة . رن الهاتف عدة رنات دون أن يجيب عليّ أحد أو أن يرفع السماعة على الطرف الآخر فأرجأت الاتصال لليوم التالي معللا ذلك بأنني ربما تأخرت في الاتصال الثالث و ربما ذهب الجميع في النوم و ربما لا يكون هاتفهم بقادر على الإرسال الدولي. لكن هذه التعليلات كلها لم تكن مقنعة لي تماما و كانت مجرد تبريرات لما هو غامض و مقلق، خاصة و أنها المبادرة الأولى لي في الاتصال بأي كان بعد نهاية المهرجانات التي تجعلنا أقرب إلى الإفلاس المادي منا إلى الأنتعاش . و عادة ما نحقق الانتعاش الفكري و الروحي و نحقق دفء الإنسان بالإنسان في حياتنا الوجدانية و الفكرية و الروحية التي نعيشها في الفن و الثقافة دون أن نكون قادرين على التجارة الحقة في حياتنا و تحقيق المكاسب المادية و الضرورية لتسيير عجلة الحياة بشكل اعتيادي. قلت لنفسي " يالها من مناقيش تلك التي ذهبت لتشتريها" و وضعت احتمالات أخرى لنوعية طازجة و مميزة منها و أبعدت المسافة ما بين منزل الصديقة و المطعم الذي يصنعها. بل تخيلت أن الصديقة ذهبت بعيداً بعيدً في جلبها و ربما إلى حيفا لولا أنني أدركت استحالة هذا الاحتمال لأن الصديقة لا تستطيع الذهاب إلى حيفا أو يافا أو عكا لمجرد شراء طبق من المناقيش لعدة أفراد . و في الشهر التالي دون أن يرن هاتفي و دون أن يتصل بي أحد طوال تلك الفترة أدرت قرص الهاتف قبل أن يفصل و قد فرغ الجيب تماماً من إمكانية سداد فواتيره، لأسمع ذات الإجابة :
" ذهبت لشراء مناقيش يا ابني و لم تعد"
و فجأة أدركت أن المناقيش التي ذهبت صديقتي لشرائها ليست كأية مناقيش عادية. ليست متوفرة لا في سوريا و لا في الأردن و لا في أميركا و لا في أوروبا و لا في كل الأماكن التي نعرف. إنها المناقيش التي هي تعرف و التي هي تريد و التي هي تحلم، فكل ما أعلم حتى الآن رغم مرور سنوات على تلك المكالمات و بعد أن انقطعت عني كل أخبارها و بعد أن لم يعد لديهم هاتف يرن أو لدي هاتف يرسل أنها مناقيش بعيدة مناقيش بعيدة فقط مناقيش فقط بعيدة .
الطريق إلى بعكورة
- مقطع من رواية تيسير نظمي الثانية
1-- الحافلة
هكذا فجأة انخرطت في بكاء مرير صعب على ركاب الباص صبيحة ذلك اليوم تفسيره. فقد مضى على ركوبها للحافلة سنتان، تدخل متجهمة بعض الشيء ونادراً ما تبتسم، تجلس في المقعد المحاذي للنافذة بانتظار صديقتها أو زميلتها في العمل أن تحتل المقعد المحاذي على يمينها . لم يخطر على بال أي من المدرسين أن مثل تلك المعلمة سوف ينهار جبل صمودها القاسي مرة واحدة. فقد أصبحت مع الأيام وانضباط المواعيد وتوقيت حركة الباص، كونه وسيلة النقل الوحيدة لقرية نائية، جزءاً من الروتين اليومي المعتاد للجميع.كان أن حصلت على تعيينها معلمة بعد أن أودعت زوجها السجن لتظهر بثياب الناسكين حتى في لباسها الميال دائماً للألوان القاتمة وفي أحاديثها ولفتاتها ونظاراتها السميكة التي توحي فورا بمعاناتها من الاستجمتزم، أصبحت مألوفة لدرجة مقيتة بحيث لا تدعوا أيا من الركاب في أي من الأيام أن يتساءلوا من باب الفضول عن مزيد من المعلومات عنها غير كونها: مطلقة، ولها أطفال، ولم تتزوج منذ طلاقها بعد معاناتها من التردد على مراكز الأمن نتيجة خلافات مع طليقها أو مع زوجها قبل أن يصبح طليقها، كل هذه التفاصيل باتت معروفة منذ سنتين فما الذي يدعوها اليوم لمثل هذا الانفجار البكائي المرير، كلما أسكتوها ازدادت بكاء وكلما تساءلوا عن السبب انهارت أكثر بالعويل، هكذا فجأة تفجرت ينابيع غير محسوبة من داخلها. براكين من الألم الذي كانت تدفنه وتحرص على عدم نضوجه من خلف تقاطيع هادئة أحيانا ومتجهمة دائماً ولكن ليس لدرجة العبوس المنفر. وحده الرجل الصامت كان يعرف أكثر مما يعرفه الجميع. لذلك لم يتحرك من مقعده ولا تساءل ولا واساها ولا تدخل في شيء .عندما نزلت من الباص في منتصف الطريق لتقفل عائدة إلى أطفالها الذين ادعت أن أحدهم مريضأ وأنها تبكي عليه، وحده الرجل الصامت كانت عيناه قد بدأتا تغيمان وتتحدر الدموع على وجنتيه بصمت لأنه وحده الذي يعلم من المنضبطين في الحزب بحكاية تعاونها وتلفيق التهم لزوجها السابق الرفيق والمناضل الذي قدم شبابه لها وللحزب ولقضيته. وحده الذي أدرك مأساة أن يصدقها كل الناس إلا نفسها. فقد اقنعت مع الأيام كل من لا يعرف طليقها أنه رجل سيء وسكير ومبذر واتكالي ويطمع في نقودها ويتوكأ على وظيفتها. في حين كان يعلم الرجل الصامت عكس ذلك، بل عكس ذلك تماماً.فالرفيق تزوج منها تلميذة وعاملها بما افتقدته خلال ثماني عشر عاماً من حنان وأبوة فكان لها أبا وأخا وأستاذا ومربياً ولم تكن تحبه، فقط هربت من المعتقل الذي كان يسمى منزل والدها إلى الحرية والبحر. إلى الجماعة والحزب والى القضية التي كانت تؤرق الرفيق.وكان يعلم الزوج بتحولاتها كما لو زهد في الحياة كلها ويعلم أن لا عرس حقيقياً له في دنياه، فقط عليه أن يكون ملتزماً بالواجب، أن يكون نزيهاً في علاقاته وأن لا يجرح شعورها بمجرد التفكير بالخيانة. فماذا يقول الرجل الصامت للآخرين معه في الحافلة؟ هل يقول لهم أنها قتلته، وأمعنت في قتله؟ لعلها إذن تذكرت أنها غير مقتنعة بما اقنع الناس، اليوم فقط قد يكون ضميرها تحرك قليلاً، قال الرجل الصامت لنفسه: إنه انهيار جميل.. إنساني جميل.. بدلا ً من هذه الجبال الجرداء والقرية الهادئة الصماء، مكافأة من تعاونت معهم عليه، لها، ما أحقر المكافآت من القتلة للقتلة، ولم ينتبه أحد من الركاب، والباص يمضي روتينه اليومي، إلى دموع الرجل الصامت، فقد كان، كما اعتاد، جالساً في المقعد الخلفي مثلما هو في الحزب. نسي بقية الركاب المفاجأة، والبكاء والمرأة، وعاد الجميع لأحاديثهم اليومية المعتادة، في الطريق إلى المدرسة. مدرسة واحدة فقط، ولا تقول شيئاً واحداًِ عن الحياة. ورجل صامت فقط تصطرع بداخله الحياة ولا يصارع غير الموت. منذ عشرين سنة وهو يخوض نفس النضالات في الحزب ومنذ عشرين سنة وهو يقطع الطريق الممل إلى بعكورة حيث تم تعيينه أول مرة دون أن يشي بأحد ودون أن يكون سببا في حبس أحد، ودون أن يتمتع بإجازة الأحد أو يسمع أجراس الكنيسة ذات أحد.
-2- المطرقة والمنجل
دخل إلي في الزنزانة حاملا مطرقة، قال: خذ واحفر في هذا الجدار عالمك، فتناولتها تلبية للأمر وأنا ما زلت أفكر بان البلد أكبر مصدر للاسمنت ولكن هذا الجدار الأسمنتي الصلد المسلح بالخرسانة والحديد الصلب من أين له بكل هذا لو لم أكن شريكاً في صنعه دون أن أقصد، فالبلد الذي أتناول مطرقته لأحفر في جدران زنزانته عالمي جاء بالاسمنت وأنا جئت بالحديد المسلح من غزة. أعدت إليه في اليوم التالي مطرقته بعد أن صقلت بها في الليل روحي. فلولا إرادتي الفولاذية ما جاء بي أحد إلى هذه الزنزانة. قال ساخراً وهو يأخذها من يدي: هل حفرت بها عالمك؟ قلت له بهدوء: عالمي بداخلي.. طرقت فقط بها ندب الروح وصقلت بها كل حديد الإرادة الساخن ولولا أنني من مطرقة ومنجل لما جيء بي إلى هنا، فقال: هل تسخر وتتفلسف! قلت: حاشا، لكن مطرقتك لا تصلح سوى لطرق العملات المعدنية، ولم أعد بكثير حاجة هنا للعملات المعدنية. فمضى بالمطرقة والنياشين ومضيت أنا في الأغنية أدندن: حن الحديد على حالو وانت ما حنيت، لو كنت تدري بحالي... في اليوم الثالث لإضرابي عن الطعام جاء نفسه ليخبرني أن المشتكية في قضيتي مرت اليوم بإدارة السجن وفي حقيبتها تقرير طبي يفيد بأنني مختل عقلياً ومريض نفسياً وتطلب مفاتيح السيارة اللادا الحمراء لتسليمها لدائرة الإجراء تمهيدا لبيعها بالمزاد العلني لتحصيل نفقتها الشهرية، ثم ضحك هازئا وقال: هل آتي لك بمطرقة العملات المعدنية؟ قلت: لا حاجة لي بها فمن تريد الطلاق والحرية لا حاجة لها بالإنفاق من العملات الأجنبية، فناولني ورقة مهرتها بتوقيعي ليصار إلى إقراري لها بالنفقة الشهرية. فمضى بها وبنياشينه ومضيت أنا في الأغنية أدندن: يوم على يوم لو طالت الفرقة ما نسيت أنا يوم ما نسيت أنا الرفقة... وفي اليوم الرابع من مواصلتي للإضراب جاءني بلائحة الاتهام وقال ساخرا: شروع بالقتل مع سبق الإصرار والترصد مكرر ثلاث مرات... يعني مؤبد يا فيلسوف عصرك، فما أن قرأت لائحة الاتهام حتى خجلت قضبان السجن الحديدية ولانت لي ولم أشآ استغلال ليونتها والدموع التي ترقرقت من عيني الجدار وهو يراني... طويت لائحة الاتهام وأنا أتذكر أول مرة أشاهد بها المنجل في يدي أمي في سهوب القرية في الخمسينبات،أيام النتش. وأول مرة أشاهد بها المطرقة في يد والدي في الستينيات في وزارة الأشغال العامة الكويتية بقسم الحدادة والصلب،أيام الهبش. فأدركت جمال أن تكون الابن الوفي للمطرقة والمنجل. وفي اليوم الخامس جاءني مكفهراً ففتح قفل باب الزنزانة من دون أن يتكلم بشيء ولما لاحظ عيني المستفسرتين قال باقتضاب : إلى المحكمة، ولا ادري مع انهمار شمس النهار في عيني دفعة واحدة لماذا تنفست هواء الأغنية هذه المرة دون دندنة: بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب... لا مالي ولا ولادي على حبك ما في حبيب. كنت اشتهي آنذاك قلما واحدا فقط والسماء الزرقاء الصافية
عزرا
إلى محمود في حيفا
أحسست به يدخل البيت قبل أن أغفو بلحظة، وكنت أعلم أنه يعلم لذلك تركته يستريح قليلا في غرفة المكتب فهو يعرف أنني لا أستقبل منذ سنوات غيره وليس لدي غرفة لاستقبال أحد كان. ذهبت إلى الحمام كي ألقي على نفسي نظرة فلا يجوز إن كان قد جاء لتأدية عمله المضني السريع الكريه المحتوم أن أستقبله هكذا وأنا ذاهب للنوم، فلم يأت بأية حركة تدل على أنه في استعجال من أمره لمقابلتي ومن ثم المغادرة على الفور. فكرت في الحمام بأسباب مجيئه خاصة في مثل هذه الأيام التي لا يفرغ فيها لثانية واحدة في الأربع والعشرين ساعة المضنية منذ الأزل. قلت لنفسي مبتسما كم في تأخره لدي واستراحته النادرة من بركة ورحمة من العلي القدير. وحالما دخلت عليه بالسلام الذي يخصني وجدته يجرب أقلامي واحدا إثر آخر متأففا من عدم صلاحية أي منها. رد تحيتي بمثلها قائلا: شلوم. مقتضبة وحاسمة كعادته فهو لا يقبل المزاح ومتجهم دائما منذ وفاة سيدنا آدم، لا بل منذ مقتل هابيل وعدم إيقاع أية عقوبة بأخيه قابيل، وهو هكذا على رأس عمله ولم يحظ منذ ذلك الحين بإجازة عمل وإن حظي بالتفرغ الإبداعي، إذا صحت الأقاويل في مصر أو العراق عندما خط بيديه أول الكتب أو المخطوطات التي نسبت إليه. سألته من باب اللياقة والكرم العربي القديم وبشاشة الضيافة إن كان بحاجة لأن يشرب شيئا فابتسم ابتسامة العارف المدرك أن لا شيء أصلا لدي يشرب فحتى المياه مقطوعة عني ثلاثة أيام في الأسبوع بفضل عناية صاحب البيت المؤجر الذي يسكن فوق وربما ما جاء من أجله الضيف العزيز بعد أن ناهز – أمد الله في عمره – على الثمانين من عمره.
قلت له – ونحن البشر كثيرا ما نحب الكلام ونؤثره على الأفعال-: أنت تعلم إذن أن لا شيء لدي لضيافتك فهل تسمح لي بالوصول للسوبر ماركت القريب لشراء علبة أو زجاجة؟ فلم يرد لكنه حدجني بنظرة فاحصة رغم الإعياء البادي على محياه.
كررت سؤالي هذه المرة بالإيماء احتراما لطبيعة عمله التي تقتضي السرية التامة والتي هي أصعب من العسكرية التي ترهقه كثيرا وربما تثير حتى الاشمئزاز.
فقال: تستدين كي تلحق بي لعنة إلى أبد الآبدين يا حفيد إبليس؟
قلت: إبليز إبليز ...حاشا أن يكون هذا ما قصدته لكنني مشفق عليك فأنا أعرف أخبارك من القنوات الفضائية وربما قصدت أن تستريح قليلا خاصة وأنني قرأت مرارا ما قد نسب إليك وما ينسب حتى اليوم وأنت تعرف أن مصادر المعلومات لدينا محدودة بعد ارتفاع أسعار النفط.
فقال: أعرف أنك كنت أيضا ستجلبها باردة!
قلت: أجل وهل لي أن أثقل عليك بتحمل حرارة غرفة المكتب في هذا الصيف الحارق.
ظل صامتا وقد تغيرت ملامحه فهو الوحيد الذي لا يستطيع بفعل تكوينه أن يصرح أو يشكو من أقداره بعد أن ضجر من مهنته أيما ضجر لدرجة بات فيها يحسد الموتى على موتهم. ظل صامتا صمتا ثقيلا ما أثقله من صمت ذاك صمت المغلوب على أمرهم إن هم تكلموا أو أعربوا عن وجهة نظرهم فقدوا أعمالهم أو طردوا شر طردة مما يظنونه ملكوت النعيم ولاحقتهم اللعنات إلى يوم الدين. ورغم ذلك سألني برفق:
ماذا تريد مني قبل أن أغادرك ؟ فقلت فورا:
أن تكون زيارتك المقبلة والأخيرة في الصيف في مثل هذا التاريخ إن شئت أو بالأحرى إن شاء الله.
فقال: لماذا؟
قلت: لأن معظم أقاربي يأتون الأردن في الصيف من السعودية والكويت وأميركا ولا أريد إحراج أحد كان في الأردن بمسؤوليات التجهيز واستخراج المعاملات الرسمية وإبراز بطاقة الأحوال المحتجزة أو جواز السفر وتسديد أجور النقل والحفر والضريبة وإكرامية المقرئين وما شابه وأنت سيد العارفين.
قال: وجارك؟ جارك الحانوتي؟
قلت: تعرف أنني لا أكلم أحدا في هذا الحي كوني أعيش عازبا في هذا الحي العائلي بامتياز. وربما إذا قررت أن تجيء دون أي تمهيد لذلك قد أتسبب بفعل الرائحة بمضايقة الجيران بعد أسبوع من مجيئك.
قال: تعرف أن القرار ليس بيدي ولست أنا من يعرف به إلا قبل ثوان معدودات من التنفيذ.
قلت مختتما: ها أنا أجبتك عما أريد فإن استطعت إلى ذلك سبيلا فهذا هو ما أريده فعلا دون أدنى تأخير.
نظر لي نظرة فاحصة، وبعد تردد قال: يا لك من فلسطيني أصيل ، هل قلت لي أن ديانتك الإسلام ؟
بقيت صامتا تاركا له تقدير ذلك أو حسب الاختصاص.
قال متشككا: اليهودية ؟
بقيت أيضا صامتا.
قال مبتسما: المسيحية؟
ونظر إلى ما حوله في غرفة المكتب وإلى بعض زجاجات فارغة.
ثم قال وهو يهم بالنهوض: البوذية الهندوسية أم أنك كما يشاع عنك من بقايا الإتحاد السوفييتي؟
قلت مكررا: أترك الأمر لحسن تقديرك...لأنك لم تجبني أنت أيضا إذا ما كان إسرائيل شاحاك محقا أم لا.
نظر إلي نظرة متأملة فاحصة مدققة وظل صامتا ولكنه كم كان حزينا يا الله كم كان حزينا وبائسا مثلي وقد قال كل ما لديه، واختفى. دون أن يقول عذرا قال ما لديه وأخ ت ف و
----------------------------------
الأردن- عمان-
17/7/2007 -17/7/200
المزرعة في الأعالي
- من رواية وقائع ليلة السحر
الفصل الأخير
1- العجل و القر و الحمار
كان وحيداً عندما دخلنا إليه. عمره لم يتجاوز الأسبوعين وواقف رغم هزالة جسده. قدم له عمي الذي تجاوز الستين من عمره إناء الحليب الاصطناعي المعد حسب المكاييل و الأوزان ووصفة الشركة الفرنسية المنتجة، فمد رأسه ليرشف ثم ابتعد غير راغب في مذاقه رغم الجوع . عللت من جانبي هذا التصرف بأنه أمر طبيعي أن لا يستساغ الحليب الاصطناعي من عجل صغير حديث الولادة عندما يقارن بحليب الأم.لكن هذا الأمر من وجهة نظر عمي يغدو مكلفاً إن هو أصر على رفض تناول الحليب الاصطناعي و أعتمد كلية على حليب أمه. و بحسبة بسيطة كان قد شرح لي عمي و هو يعد حليب البودرة ، أن تكلفة ما يشربه العجل الوليد من حليب مرضعته يبلغ نحو الخمسة دنانير يومياً و أنه لو شرب نصف هذه الكمية من حليب البودرة الاصطناعي بنصف دينار سوف يوفر في الوجبة الواحدة نحو دينارين وضعف هذا الرقم إن تخلى كلية عن حليب الأم. العجل الصغير بدا للوهلة الأولى متمرداً و ليس في وارد حسابات عمي على الإطلاق. و هكذا ظل في الجولة الأولى رافضاً تناول الحليب الفاتر المعد له خصيصاً، بل أنه عندما تم إكراهه بالضغط على رأسه ليغرق فمه بإناء الحليب إندفع بقدمه المتسخة ليضعها في الإناء مما جعل وجبته تمتلئ بالتراب و روث الأرض. و هكذا توقف العم عن الود و الإكراه معاً تاركاً له الإناء بحالته تلك حتى يجوع تماماً و يضطر في عزلته للتعود على الحليب الموجود أمامه. تأملت جسده و قد شف عن عظم ناتئ عند ظهره القريب من ذيله و مؤخرته و عن خواء معدته التي بدت فارغة لا يغطيها سوى الجلد المرقط باللونين الأسود و الأبيض. ثم غادرناه لتفحص بقية أركان المزرعة و موجوداتها بعد أن وصلنا متأخرين نحو ساعتين عن الموعد اليومي المقرر الذي يصل به عمي لتفقد و رعاية مقتنيات مزرعته من حيوانات وطيور. نهيق الحمار الذي انطلق عند مشاهدته لنا بدا حزيناً أكثر مما يجب، فقد سمعت الكثير من نهيق الحمير في حياتي المبكرة عندما كان عمري لا يتجاوز الخامسة عشرة، أي عام 1967، لكن مثل هذا النهيق لم أسمع، فقد كان عذاباً و قهراً و يأساً ذلك النهيق. و تبين لي بعد ذلك أن الحمار كان مربوطاً ليس أكثر من بضعة أمتار تفصله عن بانيو الحمام الممتلئ بماء متسخ إلى حيث اقترب الحمار و ابنه القر الصغير ليشربا سوياً بعد قضاء ظهيرة يوم حار ضمن موجة الحر التي اجتاحت الأردن أواخر أيلول عام 2004. وحينما وصل الحمار لبانيو الماء مد رأسه فورا و راح يغب غباً متصلاً للماء دون أن يرفع رأسه أو يحدث أي صوت يدل على أنه يشرب ، فقد كان عطشاً بشكل لا يصدق و على مدى دقائق متصلة ظل يشرب و يشرب و يشرب كأنه في غيبوبة و كأنه آخر الماء في الكون ذلك الذي يشربه منذ بدء الخليقة حتى اضمحلال كوكب المريخ و جفاف الماء الذي كان عليه قبل ملايين السنين. رحت أتأمل الوضع بينما القر الطليق غير عابئ بالمشهد لأنه لم يكن مربوطاً و قد كان حراً قبل أن يفك إسار والده المسكين أو والدته و مع ذلك لم يفعل شيئا لأبيه أو أمه في محنته تلك فلا نهق و لا شاركها في العويل، على عكس العجل الحصيف الذي تصرف و كأنه يحس بمؤامرة عزله عن أمه و بعده عنها و هي تملأ له درتها بالحليب و لكنها أيضاً كانت مربوطة و مغلق عليها حتى بوجود جدة العجل الهولندية الضخمة التي أنجبت أماً للعجل قبل أن يولد بزمن طويل.
2- بسالة كلب
للمرة الثالثة ، رغم تجوالي في المزرعة بصحبة العم صاحبها اليومي، ينبح الكلب أو الكلبة ببسالة منقطعة النظير كاد مع قوة اندفاعه / اندفاعها أن يبتر الجنزير المربوط به مع ان الجنزير يليق لقوته ومتانته بربط ذئب و ليس ربط كلبة هزيلة قليلة الحجم ناحلة الجسد و أشاهدها لأول مرة مثل بقية الحيوانات التي أشاهدها للمرة الأولى في المزرعة بعد انقطاعي عن التردد عليها و على العم و أبناء العم زهاء سبع سنوات متصلة كنت عاكفاً فيها على تربية العزلة، عزلتي، و ريش المأساة ، مأساتي ، وتنمية الديون ، ديوني، في قلب حي فاخر في عمان الغربية قريبا من مكان عملي الذي أزهقت فيه و حوصرت حتى حققت للوزارة أمنياتها الطيبة بتقديم استقالتي التي قبلت فوراً حتى قبل أن ينهي طلابي أسبوعهم المدرسي الأخير من العام الدراسي و قبل أن أتمكن من وضع الامتحان النهائي لهم. و هكذا مضت ستة شهور على عدم سماعي لأي نوع من أنواع النباح أو النهيق أو رعاية العجول الصغيرة و الكبيرة. و رغم نسياني للطريقة التي عالج بها مدير المدرسة الموقف بل و نسياني لمدير المدرسة نفسه خلال الشهور الماضية من العطالة عن العمل ، إلا أنني لا أدري كيف تذكرته أمام بسالة نباح ذلك الكلب الصغير، تذكرت تماماً كيف حمل ورقة الاستقالة ، أو قصاصة الورق التي كتبتها على عجل و بالقلم الأحمر المتوفر لدي آنذاك ببضع كلمات عجولةا: أنا فلان الفلاني أتقدم باستقالتي و سأوافيكم بالأسباب الداعية لذلك فيما بعد، و بعد توقيعي عليها ركض المدير يحملها مغادرا المدرسة إلى مديرية عمان الأولى زافاً البشرى لمدير التعليم و كأنه أنجز المهمة الموكلة اليه بتحرير القدس عندما أدار مفتاح سيارته و انطلق لا يلوي على شيء سوى أنه وصل إلى تحقيق الهدف المرجو من عمله التربوي ذلك المدير الذي شارف على تقاضيه لراتبه التقاعدي. لكن نباح الكلب هذه المرة لم يصل إلى نتيجة مع عمي الذي تجاهله على أمل أن يدرك أن النباح لمرة واحدة يكفي لإشعار القاصي والداني أن ثمة غريب في المزرعة و تكرار النباح على ذلك النحو يغدو أمراً مبتذلاً من الكلب الذي ليس بحاجة لإثبات كلبنته و وفاءه أكثر مما يجب ليحصل على قطعة لحم لدجاجة ميتة من الدجاج الذي يربى بقصد الحصول منه على البيض في بركسات الدجاج البياض المجاورة .
3- الحالب و المحلوب و الجالب و المجلوب
انتقلنا إلى غرفة واسعة بباب حديدي واسع لأشاهد لأول مرة ثلاثة أبقار عملاقة بأحجام ضخمة متقاربة جداً اثنتان تتشابهان باللون المرقط بالأسود و الأبيض وواحدة لم يتخلل لونها الأسود أية بقعة بيضاء تميزها عن الليل في الخارج ، الليل المرتفع على جبل مرتفع ببضع نجوم قليلة في السماء و بقمر مائل ناحية الهدوء المخيم على المزرعة في منطقة مقفرة لا تسمع بها سوى نباح الكلب عند أسفل المزرعة من ناحية الباب الحديدي الذي لا بد من فتحه لدخول الوانيت – البيك أب- القادم من جنوب عمان باتجاه مدينة مأدبا و الذي قبل بلوغه منتصف المسافة من عمان إلى مأدبا يتسلق طريقاً متعرجاً صاعداً بك نحو قرية عجرمية يتجاوزها نحو سفح الجبل حيث تقع مزرعة العم القادم سنة 1991 من الكويت بعد انتهاء حرب عاصفة الصحراء بأشهر قليلة أو أسابيع. ضغط العم على الزر الكهربائي لآلة صغيرة بماتور يتفرع عنها بربيش شفاف ينتهي طرفه بنحو خمسة شفاطات تثبت بدرة- أثداء- كل بقرة يراد حلبها بطريقة ميكانيكية تعتمد شفط ما تجمع من حليب طيلة النهار في ضرع البقرة التي تكون مربوطة الرقبة بحيث لا يكون بإمكانها الاحتجاج أو التمرد أو حتى أن تحك رأسها بالمقبض الحديدي الذي يحرك تلك الآلة على عجلات تتقدم على مسافة متر من الضرع المتدلي بما يثقله من حليب بقر هولندي عملاق يشبه كثيراً بعض العائدين من الكويت عام 1991 بما تجمع في ضروعهم من أموال طيلة ثلاثين أو أربعين عاما قضوها في مراعي النفط المدرارة للبعض و الشحيحة الجافة للغالبية ليصار إلى حلب الجميع دون هوادة أو تفرقة خلال السنين الأولى من عودتهم إلى الأردن بأنابيب لها صفتها القانونية و المؤسساتية من ضرائب و جمارك و تقاضي و نزاعات و محاكم و ضرائب دخل و مبيعات ومسقفات و بلدية و تلفزيون و كل ما تبتكره الدولة من أساليب لجمع و شفط الأحاليب مثل ضريبة المعارف و ضريبة الريف و ضريبة النفايات متعددة الغايات و كل ذلك دون أن يوجد العلف لآلاف الأبقار التي كانت سارحة في الصحراء و دول الخليج و دون أن توجد الوظائف و الكل يعيش من الكل و الكل خائف . فالعم مثلاً الذي يقوم الآن إبنه بالحلب الصناعي للبقرة الوالدة حديثاً البعيدة عن مولودها المحجوز في الغرفة الثانية بعيداً عن أمه و جدته و خالته السوداء خسر في أول سني عودته للأردن أكثر من خمسة و أربعين ألف دينار في مشروع لصنع الحلويات في مرج الحمام أظنه عند التأسيس أسماه الأصابع الذهبية ليبيعه مضطراً لمن لم يستطع تسديد ثمنه كاملاً بعد الدفعة الأولى من المواطنين الذين رعتهم الدولة دون أن يضطروا لمغادرة الأردن لا سمح الله لجلب الغنم و المغانم من الخارج و الحلب في خزينة الدولة التي لا تمتلئ بفعل بركات البنك الدولي و البنك الغير دولي. تابعت عملية الحلب البائسة للبقرة الأم التي أنجبت العجلة، العجلة التي سرعان ما تحولت إلى بقرة بحجم أمها و من ثم تحولت البقرة الأساسية إلى جدة بفعل النمو المتسارع و العلف المستورد و بعض حشائش الجبل الصخري التي يتغذى عليها الآباء و الأبناء سواء من الحيوانات غير الناطقة أو الحيوانات الناطقة و حاولت تناسي ما هو مخزون في ذاكرتي الثقافية القادمة من الكويت من تداعيات العقل الواعي و العقل غير الواعي لما يستدعيه وجود البقر الهولندي، الحليب، في الذهن من قراءات أو ذكريات، كالبقرة في أدب جيمس جويس أو في أمريكا اللاتينية و تحديدا في المكسيك و الثورة الخضراء و ما انتهت إليه بعد أيام كارديناس و مزارع البقر التي أنشأها رعاة البقر في مستعمرات البقر و ما انتهى إليه المواطن الأصلي في تلك البلدان من فقر و هزال حيث أصبحت البقرة الواحدة تعيش على ما كان يقتات عليه 12 فردا من السكان الأصليين من الفاصولياء قوت و بروتين الفقراء و خبزهم في دول أمريكا اللاتينية و لا ألحت الذاكرة أيضا على بعض قصائد بابلو نيرودا التي يرى فيها الورد الأحمر الذي سينبت من راحتي تلك النحيلة التي تلم لطع البقر بيديها لتعيش و لكنني كنت قد استدعيت تذكر مقالة لي كتبتها قبل خمس سنوات بعنوان " لسنا أبقارا لكم" و حققت التفافاً جماهيريا حولها لكل من قرأها و أحس بأنها تعبر عن وجعه، خاصة من سكان أربد. يومذاك قلت أن البقر الهولندي وصل بحضارة أوروبا كي تحصل منه على أفضل الحليب و أفضل كميات بأسرع الأوقات أن يعزفوا له موسيقى لزيادة إنتاجيتة ، أما الأبقار العائدة من الخليج فلا تجد من يحس معها أن ضرعها جف منذ السنوات الأولى لعودتها و مع ذلك ما يزال يجري الضغط و الحلب الآلي و الطبيعي لضروعها الجافة الأمر الذي يؤلمها دون طائل و دون أن تحصل مؤسسات الحكومة و الدولة على الحليب الذي حصلت عليه في السنوات الأولى من عودة الأثداء مثقلة بالدولار و الدينار. يومذاك تساءلت: هل نسي الرعيان في بلادنا العربية حتى كيف كانوا على الأقل ، يجيدون الحلب ، في الماضي القريب ، بدلا من أن يطوروه كما طور الهولنديون طريقة الحلب بالموسيقى؟ و هل لنزلاء السجون و معسكرات البطالة من العائدين من الكويت غير نقود التعويضات لمعالجة ضروعهم المشققة من كثرة الضغط بقصد الحلب بلا طائل؟ و أسئلة أخرى و غيرها تتوارد للذهن سرعان ما أطردها عن خاطري متذكرا العجل الوليد في الحجرة المجاورة الذي أعلن تمرده منذ الأسبوع الأول لميلاده بأن يضرب عن الطعام طالما هو بعيد عن أمه و جدته و خالته و طالما هو غير منتفع من حليب الأم بالقدر الذي يجعل منه مواطنا صاحاً لخدمة شعار الأردن أولاً. فجأة تساءلت بعد أن شعرت أن الغلبة للإناث في المزرعة، من يكون إذن الأب الفعلي للعجل المتمرد اليوم و الذي سوف يخنع في الغد؟ قلت لعمي : أين الثور إذن في عملية التوالد تلك التي تمت خلال السنوات السابقة من شح زياراتي لكم؟ فابتسم قائلا: أن لا ثور في هذه المزرعة غير الطبيب الذي يأتي بإبرة التلقيح الاصطناعي للبقرة المراد أن تحمل لتلد لنا عجلاً أو عجلة . و بالتالي فإن الآباء مجهولي الهوية هنا رغم معرفتنا للأمهات و الثكالى. فنحن قال العم: نجلب الدكتور فيغزها إبرة و غير مضطرين لجلب الثور. فالثور لا يحلب الثور، و هنا تساءلت: " لماذا لا تفهم الحكومات الأردنية المتعاقبة هذه الحقيقة العلمية البسيطة، في حالتي و حالة كثير من الناس من ذات الفصيلة؟" و بالتالي تصر محافظتي الزرقاء و العاصمة على إصدار مذكرات الجلب دون طائل سوى إضاعة وقت الجالب والمجلوب في عملية عبثية بين الحالب و المحلوب!
4- الصعود إلى أعلى
بعد الانتهاء من سقاية الحمارة التي كنت أظنها حماراً و قرها أو قرتها الصغيرة و بعد الانتهاء من حلب ثلاث بقرات ضخام حصلت كل واحدة منها على مكافأة الخروج إلى الحظيرة المكشوفة في الهواء الطلق وشرب الماء وجها لوجه مع الحمارة التي كانت لا تزال مستغرقة بالشرب و إطفاء الظمأ وبعد أن أدت الكلبة مهمتها و زيادة بالنباح الباسل على شخصي، و هذه أيضاً كنت أظنها كلباً ذكراً فإذا بها كما كان يخاطبها عمي كلبة صغيرة و حقيرة جداً، بعد كل ذلك صعدت أنا و عمي ، المرتفع ، تاركين الأبقار في بيتها و الحمارة و ابنها أو ابنتها في بيتهما و العجل المتمرد أصغر الكائنات في المزرعة أيضاً في بيته و عزلته الانفرادية صاعدين نحن أيضاً إلى بيتنا، إلى الفيلا ذات الشرفة الواسعة المطلة على إضاءات و أنوار القدس البعيدة التي كانت تتلألأ في مرمى البصر مثلما كانت تتلألأ أنوار حيفا و يافا و ربما عكا أيضاً أمام ناظرينا من باحة منزلنا الواسعة في سيلة الظهر خلال ليالي الصيف ما قبل حزيران 1967 الذي غادرنا من بعده إلى الكويت. أحسست مع الصعود بلهاث العم رغم أنه منقطع عن التدخين منذ سنوات و بالطبع بلهاث مدخن مثلي يحرق ثلاث علب سجائر رديئة في اليوم. كان كلانا يصعد مستغرقاً بالصمت و كلانا له عالمه و طريقة تفكيره، بحكم فارق السن، حيث أن أعمامي الاثنين يكبرانني بعشر سنوات بيني وبين العم الأكبر في حين أن العم الأصغر يكبرني بسنوات ست فقط و قد بقي في البلاد بعد هزيمة عام 1967م و لا يغادر السيلة إلا لماماً أو للزيارة و هو يقطن منذاك في المنزل الذي شيدته بأموال أرسل لي بها الوالد – طيب الله ثراه في ثرى الكويت- من عمله و شقائه في ذلك البلد منذ أن وصله بتاريخ 31/3/1953 حتى وفاته بمرض السرطان في أيار 1989 قبل عيد ميلاده المفترض بنحو أسبوع فقط. و قد أنجب العم الأصغر صبياناً و بناتاً يصعب تعدادهم فملأوا بيتنا هناك حيوية و حياة و ضجيجاً جعل الناس ينسون أن ثمة غياب أو غائبين عما صنعته أيديهم أولئك الغائبين! و لا زلت أذكر أن الوالد – رحمه الله- لم ير بأم عينيه ذلك المنزل على الإطلاق إلا من الصور التي أرسلت بها إليه وكان عمري آنذاك لا يتجاوز الخامسة عشرة. و قبل أن نصل لفيلا العم مررنا بكلب أسود تريث و لم يقم بالنباح عليّ فلما حاولت أن أشكره على حسن ظنه بي نبح هو الآخر عليّ كأنما أراد أن ينفي أية علاقة بيني و بينه باعتباري محسوب قلباً و قالباً على اليسار فكرياً و سياسياً و باعتبار عمي محسوب على أصحاب رأس المال المتوسط و شكرته أيضاً الكلب على ذلك النباح الذي يحفظ له موقعه و منزله بعكسي أنا الذي لم يحتفظ لنفسه يوماً لا بموقع في العائلة و لا بموقع في الحزب و لا بموقع وظيفي و لا بموقع أسري بعد أن تطلقت أم الأولاد و انكفأت بأولادها و نفقتهم في زاروبة من زواريب الزرقاء الحارة في الصيف كأنها امتداد للحرارة اللاهبة في الكويت و أقطار الخليج و البصرة و بغداد . و مع أنني من الناحية العملية عملت في الكويت ربما أكثر من ثلاثة أعمال في اليوم، في التدريس صباحاً و الصحافة مساء و السياسة و الحياة الزوجية في الليل مثل ثور لا يكف عن الحرث في أي مكان تطأه أقدامه، إلا أنني لاحظت أن ثمة وجه للشبه في أمور كثيرة و أن ثمة وجه للاختلاف أيضاً في ما يجمع إناث الحيوانات في المزرعة و ما يفرقها عن الذكور. كنت أحس بالتعاطف التام مع كل من يمنحنا الحليب و اللحم في وقت يحرم نفسه منها و يحرم أبناءه. أما أن تحرم البقرات الثلاث الضخام من الثور الذكر مدى الحياة فهذا ما لم أستوعبه بعد مثلما لم أستوعب حرمان العجل الوليد من ثدي أمه. فالمسألة ليست غذاء و حسب و ليست إبرة تخصيب و حسب، إذ لابد من وجود الثور بشكل من الأشكال. كي توجد العلاقة الطبيعية بين الكائنات. تماماً مثل تلك العلاقة الطبيعية بين القر و أمه الحمارة رغم عدم وجود والده الحمار. لكن ما دام حماراً فهل كنت تتوقع أن يقوم بمسؤولياته أمام ظمأ زوجته وفلذة كبده؟ و قبل أن نصل لشرفة الفيلا الجبلية في أعلى المزرعة مررنا ببيت الذكورة حيث حشرت ديوك الحبش و ديوك الدجاج في قفص واحد محاط بالشباك منعاً لمهاجمة الواويات و بنات |آوى لهن إن استطاع أحدهم النفاذ من الشبك المحيط بعدة دونمات تشكل المزرعة بشجرها و كائناتها تلك التي اشتراها العم صخورا وفلحها بقوة رأس المال و استصلحها بساتين و أشجار عنب و تين و أغراس زيتون ليوجد بقوة و بأس الشقاء على أرض الواقع شبيهاً للأرض التي فلحها و اعتنى بها جدي تساعده أموال أبي ثم افتقدناها جميعاً اليوم باستثناء عمي الأصغر و عمي الأزعر أيضاً الذي لا يولي بحكم النشأة و السن الفلاحة و الزراعة اهتماماً كافياً ناهيك عن عراقيل الإحتلال الإسرائيلي للبلاد. فالحقيقة اليوم أن الحيوانات رغم اختلاف أنواعها قد يوحدها وطن في حين أننا نحن البشر يفرقنا الوطن في بقاع وأصقاع الأرض فها نحن القسم المتواجد في عمان لا نزور بعضنا البعض إلا في المناسبات فما بالك بالقسم الموجود في الولايات المتحدة أو غير المتحدة ! لي أقارب مثلاً في المفرق وإربد والزرقاء لم أرهم منذ 12 سنة ، أي منذ هبطت بي الطائرة القادمة من الكويت في 14 تموز 1992 أما الأقارب في السيلة فلم أرهم منذ حزيران 1967 وأقارب في أستراليا وفرنسا وبريطانيا وأميركا وكل هؤلاء تكاثروا وتوالدوا وحلبو وانحلبوا بالطبع لكن ضرعهم لم يجف ويتشقق بفعل الضغوطات مثلي أو يحاصروا مثل تروتسكي في منفاه . صمت الكلب الأسود عن النباح سريعاً حالما تجاوزناه مما ترك لدي انطباعاً بأن علاقته فاترة مع العم هذه الأيام فقد اكتفى بأداء واجبه ليس أكثر على عكس الكلبة تحت التى ما تزال تنبح بلا طائل ولا تجد حتى من يلقمها بحجر .
5- العشاء والأخبار
بعد أن أثنيت على ترك العم للتدخين مؤنباً نفسي على عدم الإمتثال لطبيب القلب الذي نصحني باعتباري أصغر المصابين بأمراض القلب في عمان ، بعدم التدخين نهائياً، عندما كان بإمكاني مراجعته ودفع رسوم وأجور الكشفية وكان ذلك في أعقاب توقيع اتفاقات أوسلو مباشرة حين تعرضت في الأربعين من عمري لأول جلطة وانسداد في الشرايين ، دخل العم إلى المطبخ لتسخين بقايا طعام ثم جاء محمود ، ابن العم ، ليعاونه في إعداد العشاء لنا الثلاثة وكانت نشرة أخبار الفضائية تبث الأخبار عن القتلى والشهداء في كل من غزة والعراق وتصريحات المسئولين الفلسطينيين المعروفة مسبقاً بالنسبة لي وليس من جديد فيها يماثل القطط الشيرازية البيضاء التي تصول وتجول من حولي جائعة ومطالبة بحصتها من الطعام قبل أن تفرش المائدة لطعامنا نحن. لاحظ العم تجوالها المحموم فأخرج لها طعامها من المرتديلا التي تشبه ما أتناوله عادة في شقة عزوبيتي المتأخرة التي بدأت قبل نحو 13 سنة . تجمعت القطط حول مائدتها وقد ذكرتني بقطة جدي المدللة التي كانت تجلس على الجاعد قرب كانون النار في بيتنا الأول في الحارة الغربية من سيلة الظهر شتاء عام 1958 قبل تسعة شهور من مغادرتي الأولى للنار الأولى إلى صيف عام 1959 في الكويت في المرقاب .أيامذاك كانت رائحة شواء البطاطا والبصل الطري وما ينبعث من القدر على نار الشتاء في الموقد تدعو ابن السادسة من عمره للزهو حين يدرك أن دفء العناية الرحيمة إنما ينبعث من كفاح الإبن البكر للحاج عبدالسلام الذي بدأ حياته العملية في حيفا عندما كان في الثالثة عشرة من عمره جالباً لخواته الصغار قبل أن يولد له أخوة ذكوراً الكثير من برتقال بيارات حيفا الثلاثينيات وقد عمل مترجماً في سن مبكرة ورساماً رسم صورة للملك طلال قبل أن يغادر للكويت ربما لا تزال باقية على واجهة علية دار القفاف من آل موسى على الشارع العام الذي يصل مدينة جنين بمدينة نابلس حيث دأب الجد على صرف الشيكات التي تصله من الابن البكر في الكويت لدى محل كرسوع للصرافة بالدينار الأردني قبل أن يصبح للكويت دينارها واستقلالها بسنوات عندما كانت لا تزال تتداول الروبية الهندية ايامذاك. لذلك صار للجد أملاك فوق سفح الجبل الممتد من أعالي جبل القبيبات حتى الجبال الفاصلة بين برقة والسيلة حيث شيد الاسرائيليون مستعمرة لهم هناك . كانت تلك القطعة من الأرض الحمراء الخصبة مؤلفة من نحو عشرين دونماً ومشجرة بالسرو والزيتون والكرز والجرنق واللوز والعنب والتفاح ، حيث كان العم الذي يعد العشاء الآن يربي العصافير بعد اصطيادها مؤثراً هوايته تلك على الذهاب للمدرسة ومؤثراً الرسم بالألوان المائية على القراءة التي بات ابن أخيه الأكبر ، البكر ، منكباً عليها كملاذ ومهرب ومصير منذ عام 1965 حتى يومنا هذا ولا حول ولا قوة إلا بالله ! أثنيت أيضاً على الطعام وأنا أتبادل مع العم أخبار شجرة عائلة الجد _ طيب الله ثراه في ثرى وورود وحنون سيلة الظهر _ وكانت مبادرات الأسئلة نابعة مني وكأنني أنا المقصر فقط بالمحافظة على صلات القربى والقرابة في عائلتنا متجنباً بالطبع التطرق إلى المسائل الخلافية والعويصة بين الأخوة والأعمام وأولاد العمومة حرصاً على ماتبقى لنا من بعض مشاعر الوحدة الوطنية والعائلية ، مثل مسألة اقتسام الإرث الموجود حالياً في حوزة الاحتلال أياً كانت تسميته ذلك الاحتلال ومسماه والتي أثيرت من قبل العم وأخوتي وأخواتي بعد اتفاقات أوسلو ووادي عربة وخروجي من السجن لئلا أصاب بالجلطة الثالثة ويفقدوا بالتالي توقيع أحد الرموز الوطنية من القسمة بعد أن فقدوا الوالد الذي توفاه الله قبل والدته ، جدتي ، رحمها الله في ثرى سحاب خاصة بعد أن لحقت بها قبل سنوات قليلة والدتي أنا أيضاً رحمها الله بواسع رحمته في مقبرة الهاشمية ليس بعيداً عن رحمة حماتها. وبعد الأحاديث الودية غير الخلافية أخلدنا للنوم كما أخلدت الكلاب والقطط والأبقار والأوز والبط والدجاج والحمارة والقر وربما العجل الصغير المتمرد ، رغم أن أصوات الصيصان في بركسات الدجاج كانت ما تزال تسمع باعتبارها ديوك أو دجاج المستقبل أو على الأقل بيض الغد الآتي لاريب .
6- وما الإصباح منك بأمثل
خوسيفا ... خوسيفا ... أنا الثور يا خوسيفا ، أين ردائك الأحمر في هذا الليل الليل ؟ وأنا الثور المجهول يا خوسيفا فلماذا تتمتعون بطعني في الحلبة في غرناطة في الأندلس في ساحات العبث والتسلية والوغى في هذا الليل والأبقار نيام ، إحذري العجل القادم إذن يا جوزيفا فلم أنس ليلة رم بعد ولا نجوم سمائها الواطئة عندما كان الله قريباً منا الله هناك أما هنا فنحن القريبون منه ولا أحد في هذا المكان المرتفع عن البحر وعن اليابسة وعن الشارع وعن الكلاب وعن القدس وعن القمر المائل عن كل شيء ولا أحد أو نجوم ، في هذا الليل الموجوم كدت أصرخ وأنا أرى الستائر خضراء السجادة خضراء الثلاجة خضراء ولا شيء أحمر سوى بلوزتك في إسبانيا الآن والدم المراق من غزة حتى العراق. وتوغل الليل توغل وتغول الزمان تغول فلا حارس مصري اليوم على باب المزرعة ليتفول ولا تعليمات تصدر له بأن يغلق الباب الحديدي ولا يفتحه إن جاءت اللادا الحمراء أو صاحبها تقول . الصمت والديجور كأننا على مقربة أمتار من الله قبور بعد أن أطلق الأنباط على الأنباط النار ومن رؤوسها بالرصاص قزعت النسور من أعالي واجهة البتراء في الصحراء الدهور. فالزعرورة ماتت والحب الأول هنا دفنته بكلتا يدي وإلى هنا يحج المحتاجون وكل من عليه دين . كان العم قد أدى مثل رحمة جدي صلاة العشاء وكنت بالخبز الناشف قد جردت بقايا الحساء وتذوقت طعم بقايا التين في القطين من الثلاجة والعنب الذي أوشك أن يصبح زبيباً دون أثلاجه وكلي هموم على العجل الصغير خلف مزلاجه. لم يسألني أحد عن السنوات العجاف ولا عن من كان شجاعاً أبد الدهر ولا عن من خاف ، حتى اللحاف الأول الذي بالحرام أستبدل تذكرته في عقد بيتنا الأول اللحاف يغطي أماً وقرها يغطي نحاف ولم يكن من الصوف ليدفئنا أيامذاك اللحاف. لا لم تسمعني جوزفينا حتى الآن ولا سمعت بندائي روديكا أو شنيد الللواتي غادرن الأردن والمهرجان والصولجان مبكرات فلم يشاهدن بعد بنات العمومة مكبرات.
7- عواء في ليل طويل
قلت لعمي الذي نهض باكراً ، كما دأب جدي ، لأداء صلاة الفجر وتفقد المزرعة ، كما لو كانت الخلوة ، حيث شكلت لي صلاته إحراجاً كوني بلغت من السن عتياً وأنا لا أصلي : - كم من الوقت نحتاج للإنتهاء من الأعمال الصباحية في المزرعة ؟ فأجابني دون تردد : " ساعة أو بضع ساعة ريثما نحلب الأبقار وكي لا يجف الحليب أو يتلف " كانت سجائري قد نفدت مما جعل الحياة أو البقاء للعزلة الإنفرادية في تلك المزرعة ولو لليلة إضافية مستحيلاً ، خاصة وأن نقودي أيضاً قد نفدت ولم يعد لدي مشحوناً سوى بطاقة الموبايل و الهاتف النقال نفسه الذي حتى وإن اتصلت بأحد من معارفك طالباً النجدة أو المعونة أو الرأفة أو الصدقة أو الزكاة أو طرح السلام أو تحية الصباح لما رد أحد عليك وفي أحسن الأحوال تسجل استغاثتك تلك " مسنك كول " وهكذا بدأت في هدأة الصباح رغم حاجتي الماسة للنوم ، النوم الطويل الذي يليق بالمرتفعات العالية القريبة جداً من السماء أو التي هي فعلاً على العتبات الأولى من السماء كما لو كانت أعلى من التيبت فوق جبال هيملايا بل وأقرب ، بدأت أتصفح كتابي بيميني ذلك الكتاب الذي قد يطبع أو قد لا يطبع ، فلم أجد منه غير بقايا سطور لا معنى لها فحمدت الله أنه لم يكن الكتاب أو أي كتاب مقدس ، ولا هو أيضاً والشهادة لله بذلك الكتاب المدنس. قلبت صفحاتي فوجدتها لم تزل صافية كأيامي وبيضاء ناصعة كروحي ولكنني يا للأسف لم أكن كما كنت قبل سنوات عندما كنت عقب خروجي من السجن قد لجأت لذات المكان وكنت أيام ذاك صيف 1995 أعوي وأعوي مع الذئاب في البرية وأتمرد وأحتج وأقول ما حان اقتسام الإرث بعد و ما حان اقتسام الأوطان بعد و ما حان نهش البعض للبعض على رقعة وطن و ما حان ما حان البعد عن عمان لأي مكان وأعوي للأيام القادمة من الزمان إلى الزمان علها تفر اليمامات و تفر الغزلان لبر أمان . كنت أصارع الموج تلو الموج و أغوص أحياناً لأظهر من جديد كأنني كان كان العوام. كنت أختفي من الأردن لأظهر في دمشق وأختفي من دمشق التي تأسر دمشق لأظهر في اللاذقية التي إذا ضقت منها أذهب للساحل يوحدني البحر أمامي بالكرمل جيراني وإذا أزف الليل أرقص وبحضني الجنون والجنون راقصاً لا يراقص أقل من مدينة أو بحر. والبحر ذاته البحر إن كان في جزر أو غير راغب في الرقص أهجره منسحباً لغير بحر. وهكذا وجدتني أيام اللادا الحمراء لا أنهب غير المسافات بين المدن صيف عام 1996 داخلاً أم راجعاً الأردن وقد تناهى إلي الخبر أن في الكرك جوع وأن خبز الفقراء في رجوع وأن الاعتقالات لرفاق ورفاق قد دبت على حين غرة والروح تأبى الخنوع. لم أكن عجلاً يتيماً حين كان ثمة حزب وما كنت تائها حين كان ثمة درب. إلى الدوحة إذن وللراية أو وطن ، للشرق للشرق وقد بلغت المحن. وعلى شاطئ دوحة قطر ، بنفس رطوبة أجواء الكويت والبحر كان الملاذ وكان السفر ، كأنه القدر . ولم أكمل اليوم السابع حتى وجدتني يا عم عائداً لعمان فلا مفر. وها أنا كأنني ما علّمت أو درّست ولا كتبت أو إنكتبت بالوحل والطين على عجين خبز الوطن. فاقداً كل شيء كقدرتي على العواء أو الثغاء أو النهيق أو النباح على كل ما هو مستباح . فكرت فعلاً بالنباح لأجد حنجرتي تخونني. فكرت بالعواء الطويل الطويل لكنك أيقظتني. فكرت فعلاً بالهديل لكن روحي لم تطعني وحتى لو فعلت فهل تكون قد صدّقتني. ما للمزرعة صمت وسكوت ؟ هل نامت الكائنات عند الفجر وتركنني ؟ ووحدي لا تطاوعني نفسي وحدي . وعندما جهز العم للمغادرة حيث تعالى صوت محرك السيارة ، كانت السماء زرقاء وليل. كانت المزرعة صمت وخيل. وخيلت نفسي مع كل كائناتها نكاكي ونعوي وننهق قبل أن نزهق ، نشنق أو نشهق، ونخور أو نثور وتنبعث أصواتنا جميعًا في عزف سيمفوني قادم، لليل مطبق قادم .
- ----------------------------------------
- -www.nazmi.org/literature/Page_4.html
شهادة بالصوت المسموع
لا يكتشف الإنسان صوته ، ربما لأنه يسمعه للآخرين ، والآخرون لا يكونون كلهم صرحاء في ملاحظاتهم ، بل لربما لا يعجبهم صوتك . لم أكن منتبها لهذه المسألة فالإنسان يبدأ أحيانا باكتشاف ملامح وجهه في المرآة ثم ينشغل عن نفسه باكتشاف ما حوله ، وقد يكتشف جسده في الحمام مثلما يفعلون أيام المراهقة. بالنسبة لي ، تأخرت بعض الاكتشافات طويلا لانشغالي باكتشافات أخرى لذلك لم أنتبه لصوتي وممكناته وخصائصه ومنحنياته البيانية التي باتت تهم أجهزة الاستخبارات والتصنت وعلماء الإلكترونيات والموسيقى وبعض الإناث المتيقظات الحواس . اليوم ، وبعد إجراء الانتخابات النيابية في الأردن ، ذات الصوت الواحد ، وعدم إدلائي بصوتي فيها ، أدركت إن لم أتذكر بعض كلمات الإطراء فيه 000أن صوتي مهم جداً ، ليس بسبب قدرته الطبيعية غير المفتعلة على تجاوز إطفاء الميكروفونات المتعمد أمام مداخلاتي السياسية منها أو الثقافية ، بل ثمة فتيات وسيدات صارحنني في لحظات صدق وحميمية بأنهن كن ينتظرن في الدورات التدريبية أن يستفزني المحاضر بسؤال فأتكلم ، وبالتالي يتلذذن بسماع ذلك الصوت الجهوري. أخريات صارحنني أنهن كن يسجلن بعض الأحاديث الإذاعية لي بحجة أنها أحاديث ثقافية لا لشيء سوى لسماعهن ذلك الصوت. زملائي في الثقافة والفن، بعضهم أبدى هذه الملاحظة باقتضاب ، فالصديق بسام هلسه قال لي في لقاء لنا في دمشق بعد انقطاع دام زهاء أكثر من اثنتي عشرة سنة ، أنه عرفني من صوتي في مقر الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين في دمشق ، لأن ملامح وجهي تغيرت بعض الشيء بفعل الزمن والمزاج والقهر المبكر. السيدة ليلى العثمان –الكاتبة الكويتية- وصفته لدى سماعي إذاعيا بأنه صوت "رخيم"، مع أنني لست متأكدا من عدد المرات القليلة التي قرأت أو سمعت تلك المفردة النادرة في حياتي . المخرج المسرحي المصري عرنوس أبدى إنذهالا بعد مداخلة لي في المركز الثقافي الملكي في عمان فأبدى لي من خبرته بالأصوات ما أدهشني من الممكنات التي يحملها صوتي خاصة عندما أتحدث بانفعال تحمله طبقات صوتي على اختلاف درجاتها كاندفاعات بحر هائج ترتطم أمواجه بعدة أوتار صوتية فلا هو عزف آدمي يذكرك بضربات فريد الأطرش على عوده في مقدمة أول همسة ولا هو صادر من آلة موسيقية محددة يسهل تسميتها وتتبع تواريخ ومراحل تطويرها وتحديثها. لذلك قلت لنفسي اليوم في الأول من تموز عام 2003: لماذا لا أكتب عن صوتي من وجهة نظري أنا وليس من وجهة نظر الآخرين ؟ إنه صوتي وأنا حر فيه ولا أريد أن أمنحه لصناديق الاقتراع المغلقة. إنه صوتي الذي يكتمه كابوس في ليلة أرق ولا يكتمه فقط احتجاز مخفر الشرطة في عمان أومحافظة الزرقاء لبطاقة الأحوال المدنية التي تخصني والتي تخلو على أية حال من أية تسجيلات صوتية لي ، بل أبدوا فيها بصورة صماء وأحرف وأرقام ليس أكثر . وزارة الثقافة مثلا ، سجلت على أشرطة جميع مداخلاتي ولم تسمعني واحدة منها لعلي أدرك خطورة ما أقول وارتدع مثلا لإدراكي كمستمع لحجم خطورة السخرية في الصوت المتحدث أو الغضب الصارم عند بعض العبارات التي أقولها بإخلاص ولا أسمعها ربما من الآخرين. كمتحدث أكون مندفعا بفعل الشجاعة والأخلاق والمشاعر لقول كلمتي كتلك مثلا التي أدليت بها في قصر الثقافة وتم استدعائي للمحافظة على أثرها ولم أذهب. هل صفق لها ألفان موظف حكومي لأن صوتي فيها كان جميلا جهوريا فقط؟ ولماذا استدعائي لو لم تكن تحمل نبرة احتجاج عالية ضد حرمان أي مواطن أردني من صوته أو من حقه الدستوري بالتعبير؟ لا 000لا. المسألة أكبر من صوتي وممكناته ، لا بد من وجود شيء أكبر من الأوتار الصوتية التي وهبني الله إياها وجعلها في حنجرتي أول المتأثرين من أعضاء جسدي بحكم الإعدام شنقا لا قدر الله لو أن الأمور ساءت ووصلت هذا الحد ، إني أتساءل اليوم بشيء من الأسى عن صوتي إن أصبح هو صوت العرب عام 2003 وليس عام 1967 مثلا ؟ خاصة بعد اختفاء صوت صدام حسين بصورة مفاجئة عن محطات البث الحي الفضائية . هل لصوتي فضاء إذن وأنا لا أعلم ؟ أقصد فضاءات الحلم والأمل في مستنقعات اليأس والإحباط . هل لصوتي صليل السيوف في الأزمنة الغابرة؟ هل هو مملوء حقا بآخر صرخات الهنود الحمر في البراري ؟ من الطبيعي أن يكون صوتي ممتلئا بثقافتي ومن الطبيعي أن يكون هذا الصوت مرتبطا بسحر ما تراه بصيرتي وعقلي من الممكن والقادم والمقبل، فقد كتبت في حياتي مئات القصص وبعضها أكثر نجاحا من بعض القصص العالمية لكنني لم ألحظ شهرة واسعة لها ربما لأنني لم ألقها بصوتي مثلما أفعل في الأمسيات القصصية. أجل إن الآخرين يقرأونها ويسمعون أنفسهم ويقرءونها بالطريقة التي يريدون تماما مثل الانتخابات الأردنية التي تكون النتائج فيها شبه محسومة سلفا قبل الاقتراع. ولأضرب مثالا على عنوان إحدى قصصي التي نشرت بالشكل التالي في أربع صحف عربية :(بيت الذبابة) في حين أنني لو قرأتها بصوتي لقلت: (بيت ألذُّ بابه) رغم وجود ذبابة ما في الموضوع لكنها لم تكتب وتنشر بصوتي تماما مثلما تفعل بعض المواقع الإلكترونية الإسرائيلية التي تسجل قصصا و أشعارا لكتاب يهود ملقاة بأصوات يهود آخرين ولكنهم ليسوا الكتاب الحقيقيين لتلك النصوص المقروءة أو المسموعة من رواد الانترنت . أتذكر اليوم الجانب السيئ من صوتي أيضا ، فقد جربت ذات مرة عندما اشتريت أول مسجلة في حياتي أن أسمع صوتي فصدمت . قلت : هذا ليس أنا فالشخص الذي يتحدث غريب عني لم أتحدث معه ولم أستمع إليه من قبل ولم يرق لي صوته إطلاقا ، فماذا لو حدثت الكارثة وغنيت آنذاك أو بعد ذاك لأسمع صوتا أجشا مقهورا لا يحمل أي أمل بالغناء ؟ لا ثم لا وألف لا00الصمت بالنسبة لي أجمل ويجعلني اكتشف ملامحي لدى تفاعلي مع الآخرين ، فلي أيضا عينان تدمعان أحيانا وكعيني صقر أحيانا أخرى وتلمعان بالحديد الأحمر عند بلوغه درجة الانصهار أحيانا في لحظات غضب، فماذا لو تصاحبت الرؤية بالسمع في مشهد تلفزيوني وشاهد بالصدفة الرئيس بوش ذلك المشهد؟ الأرجح أنه سيقول أن شخصا يمارس عليه الإرهاب منذ 52 عاما هو مصدر لا ينضب للإرهاب حتى قبل بزوغ نجم ودولارات العلامة السعودي أسامة بن لادن. ولا بد لي من الاعتراف والإقرار بحكمة القائمين على التلفزيون الأردني والتلفزيون الكويتي من قبله أنهم لا يظهرون صورا ناطقة لأمثالي خشية استفزاز أمريكا وترسانة أسلحة القطب الواحد، وبالتالي قد يعدمونني مثلما أعدموا سيد قطب. تذكرت الآن أيضا أنني منذ الطفولة كنت معجبا بصوت القائد الزعيم الراحل جمال عبدا لناصر ، ولكنني لم أعجب بما رأيت في أعقاب الأيام الستة بعد الخامس من حزيران1967 عندما سمعت جدي يجهش بالبكاء لفراقنا نحن أحفاده مغادرين سيلة الظهر نحو المجهول الذي ما لبث أن قذفنا نحو المجهول الثاني والثالث وهكذا وطيلة نصف قرن ما يزال صوتي رغم ذلك بالنسبة لي مجهولا ، يا صوتي وأحمد ! يا صوتي وزرد السلاسل وصفعات أبواب السجون! يا صوتي الذي يذهب هباء في التصفيق ولا أحد. كم مرة يسلمني للتصفيق الحاد الذي ينتهي بعد لحظات لكن القلب المشحون بالألم والعقل المشتعل بالغضب يسمعان دقات خفق قلوب المتعبين وأعود فاسمع صمتي غير متمتع بسماع صوت الآخرين وأنا منهم. أسمع صمتي الجهوري "الرخيم" الرحيم الهامس كما اسمع جريان الدم في عروقي وخلخلة البحث عن قطرة ماء لجذوري في هذه الصحراء المتسعة للأمريكان والإنجليز ودول شرق آسيا . والتي تضيق بي وبصوتي مهما كان جميلا وناطقا بالعربية. صوتي مشكلة، خاصة إذا كان دافئا لقلب محب، صوتي سحر وفتنة للنساء، وأني لأدهش لماذا لم يحرم على الرجل صوته ؟ فهو فتنة للنساء مثلما أن بعض أصوات النساء فتنة للرجال . ألوذ بصوتي في وحدتي واستعيض عنه بصوت فيروز، ومارسيل خليفة، والشيخ إمام ونادرا ما أسمع غير هؤلاء من المطربين أو من الأصوات . مأساة لو أن ملحناً أو مخرجًا استغل صوتي للغناء . لا أتخيل نفسي مطربا ربما لأن صوتي يصدر من عقلي أولا ثم يحمل مشاعري وصدقي . وأتخيل حقا مجموعة من الطرشان جاءوا لسماع صوتي فقط ، كيف يكون الموقف ؟ بل أتخيل نفسي بلا حنجرة أمزق خرائط الدول وكتب الجغرافيا وبعض الفتات من العملات الورقية التي سأكتفي بجعلها مبتلة فقط، فما نفع صوتي إن فقدت عضوا من أعضائي المكتشفة ؟ ها أنا اكتشف كل شيء وأسمع كل شيء ولا اسمع صوتي. أحيانا لا أسمع سوى الصدى، وهكذا سيكون الجسد: رفات الاسم ورماد الجمرة ودخان الكينونة 0 الصوت مجرد ذاكرة لما حلمنا به 000 وأحسسنا به .
2003
من القصص التي لم تجمع للكاتب في أي من إصداراته:
1- غيوم في السماء 1972نشرت في مجلتي الجامعي والنهضة الكويتيتان- فائزة بالجائزة الأولى لمسابقة القصة القصيرة في جامعة الكويت وأثارت معركة نقدية وسياسية حال نشرها وتقديم الدكتورعرسان الراميني قرائة نقدية لها رد عليها الدكتور أحمد الطحان والكاتبة فاطمة الناهض في نفس المجلة خلال ثلاثة أعداد متتالية.
2- شجرة شوك 1972 - الرسالة الكويتية صيف 1972بعد استشهاد الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني بشهر تقريبا وهي أول قصة تنشر للكاتب.
3- الداخل والخارج 1973 - مجلة الجامعي الصادرة عن جامعة الكويت
4- أوراق الخريف 1973 - القصة الفائزة بالجائزة الأولى لمجلة مرآة الأمة الكويتية.
5- زهور تحت المطر 1973 - مجلة الجامعي الشهرية.
6- نشيد الأناشيد 1973 - مجلة الجامعي – عدد طه حسين.
7- الريح والشجر 1974 - مجلة فلسطيننا من إصدار اتحاد طلبة فلسطين وأخرجها ناجي العلي.
8- السبورة والطائرة1974 مجلة البيان الشهرية الكويتية-تصدر عن رابطة الأدباء الكويتية
9- ....... 1974 - جريدة السياسة اليومية الكويتية.
10- أم طافش تزور المدينة والعجوز يروي أشياء عجيبة – جريدة الوطن اليومية الكويتية أو الهدف الأسبوعية في الملحق الثقافي لكل منهما –ملحق الثلاثاء للوطن وملحق الخميس للهدف.
11- مؤامرة 1983 - الطليعة الكويتية – ويومية يمنية أعادت نشرها بعنوان –مؤامرة يا ناس- وقد نشرت في الكتاب الذي أصدرته جمعية المعلمين الكويتية متضمنا نشاطاتها الثقافية السنوية مع تعليق نقدي للكاتب المصري أبو المعاطي أبو النجا الذي تولى تقديم دراسة نقدية في قصص الأمسية القصصية التي شارك فيها الكاتب مع الروائي والقاص اسماعيل فهد اسماعيل والقاصة والروائية ليلى العثمان بدعوة من جمعية المعلمين الكويتية منتصف الثمانينيات.
12- لأجل عيون مريم 1984 الوطن الكويتية.
13- شنكل شناكل 1992 الوطن الكويتية.
14- هموم الجدار رقم 5 – رواية قصيرة نشرت على حلقات في مجلة الجامعي عام 1974
15- " غيمة النار" رواية قصيرة بعنوان لم تنشر ولم تطبع وقد اطلعت الكاتبة فاطمة الناهض عليها بعد عودتها من الدراسة في الولايات المتحدة لتلتحق بجريدة الوطن الكويتية وقد كتبت الرواية بين عامي 1978/1979 وفيها استشراف مبكر لحرائق آبار النفط وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت صيف 1982
16- مجموعة قصائد نشرت في الوطن الكويتية وأسبوعية صوت الخليج خلال فترة عمل الكاتب في كل منهما عامي 1977- 1978 /1979
17- الشاي الأخير 1996 جريدة الأهالي الأردنية وجريدة المسائية الأردنية1999
18- ....ذات الرداء الأحمر.... 1997 جريدة العرب اليوم الأردنية
19- ......جريدة الزمان العراقية اللندنية 1999-2000
وتهيب حركة إبداع بكل من يعثر على نسخ منها أو يحتفظ بأعداد من المجلات والصحف المذكورة أن يبادر إلى الاتصال بنا أو بذوي الكاتب على عناوين حركة إبداع أو على البريد الالكتروني التالي: tayseernazmi@yahoo.com
5646904-79-00962
5163612-6-00962
فهرس
مقبرة خمس نجوم
حمارنا لا يرغب حمارتكم
محنة الغراب
مجرد تأخير
مناقيش بعيدة
الطريق إلى بعكورة
عزرا
المزرعة في الأعالي
شهادة بالصوت المسموع
|