Look at the record, says Chomsky: Obama is in many cases worse than George Bush and Tony Blair -- on Afghanistan, Pakistan, Israel, Egypt -- and would be indicted for war crimes if the Nuremburg principles were applied.

 

March 29, 2024

 الكتاب السادس - مقبرة خمسة نجوم - تيسير نظمي

وقائع ليلة السحر - 1-في وادي رم -  رواية - تيسير نظمي

النهر تائها عن مجراه - ديوان الشعر الأول لتيسير نظمي

 Wandering Lost River , by Tayseer Nazmi was rejected by the Jordanian Ministry of Culture.(Poetry)

Events Of Magic Night, by Tayseer Nazmi was rejected by the jordanian Ministry of Culture. (Novel)

رفضت وزارة الثقافة الأردنية طبع أو دعم طباعة ديوان الشعر الأول لتيسير نظمي وكانت قد رفضت أيضا طباعة أو دعم طباعة روايته وقائع ليلة السحر في وادي رم -عام 2004 - وما تزال مؤسسات الدولة الأردنية تحاربه ككاتب وكمعلم لغة انجليزية أيضا يمارس التعليم والترجمة منذ عام 1975 ويمارس الصحافة منذ عام 1972 في الكويت ومن ثم الأردن التي عاد إليها من الكويت في 14 تموز 1992 وما زال يقاوم كل أشكال التخلف والعنصرية والتمييز الممارس ضده كمثقف وكاتب وصحفي ومترجم ومبدع من أصول فلسطينية

 

 

 

Al-Dahs-(The Crush) By Tayseer Nazmi - Short Stories - 1982 - Kuwait

الكتاب الرابع - الدهس - مجموعة قصصية لتيسير نظمي صدرت في الكويت عن مطابع دار الطليعة ودار المشرق والمغرب العربي للطباعة والنشر

ALDAHS-T-NAZMI

 

(The Crush By Tayseer Nazmi – 1982)

 

The Fourth Short Stories Collection – 2nd. Book by T. Nazmi

 

كتاب الدهس لتيسير نظمي – النسخة الإلكترونية (الكتاب الرابع – الدهس – 1982 – دار المشرق والمغرب العربي للنشر والتوزيع – الكويت – مطابع دار الطليعة )

 

 

الكتاب الرابع*

 

 

الدهس

 

 

تيسير نظمي

 

 

سلام الله عليك يا خير منزل      خرجنا وخلفناه غير ذميم

 

فإن تكن الأيام أحدثن فرقة      فمن ذا الذي من ريبهن سليم*

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

------------------------------------------------------------------------------------------------------

 

*الكتاب الأول للكاتب "البحث عن مساحة  " 1979 يتألف من ثلاثة كتب

 

*علي بن محمد – القرن التاسع ميلادي

 

 

 

 

 

 

استهلال:

 

 

مررنا ، راياتنا منكسة ، بحشد من الوقوف مشرعة سيوفهم قلت :

 

آه .. أيما زمن نحن الآن، وهذه السيوف لما تزل لامعة.. والجباه الشامخة تنز عرقاً ما زال ساخناً ، والفؤوس على الأكتاف مشهرة !

 

قالوا : " سلاماً " قل ولا تنحني فهذه جموع بابك الخرمي ، وعشرون عاماً من القتال .

 

نززت خجلاً . أسندت ظهري .

 

" أيما زمن جعل من قاماتنا انحناء ومن عيوننا استغاثة خرساء " !

 

قالوا : " سلاماً " وادفع بصدرك للأمام

 

فالتفت إلينا بابك الخرمي :

 

.. أيما أقزام تمر من هنا ؟

 

وقفنا صاغرين وقلنا :

 

نعلم أننا أحفادك الفقراء .

 

أغمض عينيه ، طفح حزناً ، وأشار :

 

مروا سريعا . لا أراني رأيت تعب عشرين عاماً وتحولات الزمان . مروا سريعاً

 

إني أرى قامات من يأتون الآن بلا قامات منحنية.

 

فمررنا يتامى ضائعين . نحن من ضيعوا العمر عبيداً. ولم يعرفوا بابك الخرمي . وأفسحنا مجالاً للقادمين .

 

             .    .    .

 

قمئ قزم عتيق هرول لاحقا بنا .

 

فوقفنا .

 

-        من أنت ؟

 

-        أجاب باستحياء :

 

        أبو العباس احمد بن يحيى .. ( ثم أردف بخجل امرأة ) أنا البلاذري .. أضعت العمر أيضا وكتبت " فتوح البلدان "..

 

-        أنت من قال " الكافر الخرمي " ونافق الخليفة ، وأغمض عينيه عن الفقراء ؟

 

        بلى ..

 

فاحتشدنا فقراء، صعاليك، مهزومين، واحتشدنا قتلى، منفيين، احتشدنا سجناء، منبوذين.

 

احتشدنا مضطهدين ، مستضعفين ، احتشدنا وقتلنا البلاذري وأفسحنا مجالاً للقادمين .

 

.    .    .

 

حين قتلنا بعض أجدادنا، ارتفعت قليلا قاماتنا، وحين قابلتنا حشود الزنج لم نقل

 

قاماتنا ارتفعت، فالسواعد السوداء لم تزل نابضة بالدماء، والصدور الزنجية قاتمة، لكنها، الجهة الوحيدة، والمشرق الجديد للشمس الوحيدة.

 

قالوا : انتم .. يا بيض الزنج !! انتم بيض العبيد قفوا ، فوقنا : تصريح مرورنا بكم أننا نحمل جثة البلاذري واسم بابك الخرمي ، ووجهتنا القرامطة ،ة فاطل حمدان والاثنا عشرة ، هزت الجموع رؤوسها أسفاً ، وأشاروا :  " هم أحفادنا " .

 

فاقشعرت الأبدان .

 

أية .. الآن ما اكتشفتموه .. أن تقتلوا البلاذري وتنسوا سلاطين الزمان ، لا خير في من يقتل عمره .. ومتأخرا يأتينا بجيفة الأقزام.

 

فتركنا جثته بعيدا وهممنا أن نقتل أنفسنا غضبا. فقيل : من تقتلون ؟ قلنا: نقتل العبودية فينا الآن، فقيل بأسف: أيها المقتولون، لا حق لكم بالقتال، قفوا.. هنا . عما قليل تأتيكم جيفا متهرئة.. جثث من قتلوكم صغارا . قفوا .. وارفعوا قاماتكم بلا خوف .

 

 

صالح صلاح يتسلم رسالة من والده

 

 

" إذا الدنيا صباح الله لا يصبحك بالخير وإذا الدنيا مساء الله لا يمسيك إلا بالويل .. أما بعد يا ابن الملعون فقد مرت أربعة شهور بأيامها ولياليها ولم ترسل لنا تعريفة ولا منين رايحة ولا منين جاية وكأننا في الضفة نأكل السمن بالعسل وكأنك لا تعرف ما هي أحوالنا . هذه ثاني رسالة ، وتحرم عليَ أمك إذا كان ما قطعت تصريح وجيتك تشوف وين بتروح بكل هالفلوس . بقول هذه الرسالة الثانية وتكون أمك طالق إذا كان كتبت لك بعدها رسائل . أرسل بالعجل كل ما وفرته وإذا كان بالك بالزواج فعليك ببنات عمك عندك ، وإذا سمعت أن عينك شايحة هون ولا هون رايح أوصي أولاد العيلة عندك يقلعوها بمخرز . والسلام ختام .

 

 

الداعي أبوك

 

صلاح أبو علي

 

كتب الرسالة على لسانه أخوك احمد.

 

. . .

 

إلى حضرة الوالد العزيز صلاح الحراث

 

والى الوالدة الحنونة وإخوتي وأخواتي قرة عيني . لقد وصلتني رسالتكم بعد شهر من وصول ابن أبو فخري ما غيره الذي كان عندكم يتفسح في شوارع تل أبيب متنكراً بزي اليهود والذي بلغني انك ذبحت كل ما تربيه الوالدة من دجاج على موائد كرمك السخي له ولعروسته . فعهدي بك مضياف دائماً إن لم يكن بتنك الزيت والزيتون فبالدجاج والزغاليل ومناسف الرز .بعد شهر من وصوله هنا التقاه أبو النعيم صدفة في الشارع وعلم أن لي رسالة عنده . وأبو النعيم نسي أن يخبرني في زحمة انشغالاته التي لا تعرفها. فأخبرني صدفة فأخذت منه عنوان بيت ابن العم وقضيت نهار الجمعة بكامله أفتش عليه .لقد دفعت أجرة وانيتات بمصروفك ومصروف إخوتي وأخواتي أسبوع عندكم كي استلم رسالتك – سامحك الله- فلما اهتديت إلى بيته قالوا لي انه في المسجد . لم يذبحوا لي صيصان طبعاً ولا زغاليل . خرجت انتظره على باب المسجد. ليس المسجد الذي بجانب بيتهم طبعاً . بل مسجد اكبر وعليه الهيبة . كنت أظن أنني حالما يخرج المصلون سأعرفه أو يعرفني. كيف ولا وهو ابن عمك وابن عمي والده واحد . ولكنني ل أميز من بين كل الذين خرجوا ملتحين ومدشدشين ومقصرين واحدا من الممكن أن أظن انه ابن عمك أو ابن عمي . فعدت اطرق بابهم فخرج لي رجل ملتح يلبس دشداشة كدت أظن ساعتها أنني أخطأت البيت لولا انه ابتسم ودعاني للدخول . وسلمني الرسالة وسألني إن كنت أصلي أو لا أصلي فلما شرحت له ظروف عملي التي لا تعرفها أنت ولا يعرفها مخلوق سوى الفئران التي تنام معنا في الحوش راح يشرح لي هات يا آيات يا أحاديث وهات يا مسبات منك عندما فتحت الرسالة . لقد سألني ابن عمك عندما قرأت رسالتك إن كنت قد أرسلت لك نقود أم لا. فلم أرد عليه خشية أن اجرح شهامتك وكرمك – سامحك الله – فماذا أرسل لك أكثر من عشرين دينارا استدنتها دينا من الشباب معي في الحوش . والتي لم تذكر في رسالتك الطيبة الحنونة أنها وصلت حتى الآن. واعرف انك حين تستلمها من محمود الشلته ستسدد بها ثمن القهوة والسجائر وبقية مصروفات بيت العزاء الذي فتحته عندما مات ابن أبو قاسم ابن عمك في أمريكا . واعرف انك حين تستلمها من ابن الشلتة سوف تغضب ولا يهدأ لك بال لان برهوم أخوه إذا عرف بالمبلغ سيظل يسميك " بالحراث " ولن يحسب لك حساب لا في الصغيرة ولا بالكبيرة في البلد . ولكن ما حيلتي معك وأنت لا تسمع لا كلام الوالدة ولا كلامي. هل أخبرك أن ثمن إعلانات التعازي التي نزلت هنا في الجرائد لشاب لم يتجاوز العشرين من عمره تنفق عليك سنة بكاملها وان تكاليف نقل جثته من أمريكا تجعلك مختارا للبلد إذا كنت ما تزال تحلم بالمخترة لماذا تغلب نفسك يا ختيار ونازل فتح بيوت عزاء وفتح بيوت ضيافة وأنت لم تشبع ولا أشبعت .

 

أما بخصوص قطعك تصريح زيارة وحضورك فإنني أتمنى أن تعملها لتأتي وترى كل شيء. ولكن قبل أن تتسرع وتجني على من ورائك احسب مليون حساب مع أولاد عمك لكرت الزيارة. فلا تظن أن أولاد العيلة سيستقبلونك بأقواس النصر والدبكة والزفة ولا حدود حدود الدول تدخل فيها متى تشاء .. ربنا يهديك لتعرف أن حذاء محمود الشلته وبسطار برهوم المقطع تسوى كل أفراد حمولتك . أولاد الشلته الفقراء الذين لا تعترف بهم رجال ، وأينما حلوا رجال – صحيح أنهم لا قبل ولا بعد كان لهم دونم ارض في فلسطين ولا غير فلسطين . لكنهم ثوار يناضلون من أجلك ومن اجلي. فهل تفهم . سامحني بهذه فقط ولا تزعل . فقد قضيت كل عمري لم ارفض لك طلب. حتى عندما كنت لا أريد أن اترك سكة الحراثة من بين يدي لم اخرج عن رغبتك بالسفر . وها هي النتيجة . لم تدركها أنت بعد . لكن أصابع يدي المهترية تنبض بها كل لحظة . الأرض يا والدي حين كنت أساعدك في حراثتها كانت كالبنت الصبية ما أن تتزوج حتى تفور . كانت تحت سكة المحراث طرية . وبعد المطر تموج بالخضرة . أما الحيطان التي أظل احف بها هنا من الصباح حتى المساء فإنني سأظل طول عمري أتنقل بينها من حيط إلى حيط ومن بناية إلى بناية بدون أن أرى ما حل بها من بعدي . أي لون أصبحت . أي مخلوقات اندست فيها . كنت عندما احرث معك لا تكاد تمر شهور حتى أذوق طعم البندورة وطعم الخيار والفقوس الذي أصبحت اشتهيه اليوم بعد شهور مرت كأنها سنين من أكل المعلبات والمعلبات . كنت حين يأتي الشتاء اشتهي أكلة العدس مع خبز الطابون المقحمش ورأس بصل . وتوقد لنا النار بنفسك فأشم رائحة الحطب . ولا يكاد يهل الشتاء حتى تشتاق للصيف ولياليه المقمرة فنقضي الليالي أنا والختيارة نتحدث عن الموسم المقبل عن المطر وعن الشجر بأسمائه . كان لكل شجرة اسم. المشمشة المهكفة والزيتونة سعدة التي زرعتها أمك سعدة والرمانة والتوتة . والتينة الخرطمانية كانت مدار حديثنا والصبرة حتى حيايا الأرض كنا نألف خروشتها بين السناسل حتى الحراذين في جحور جذوع الزيتون ، كل شيء كان أجمل . نعم أجمل من كل الصوف الانجليزي والراديوات والساعات والذهب والدنانير التي تتمناها أنت وحدك . سامحك الله . ماذا فعلت بي ؟ ماذا فعلت بابنك في أيامه هنا التي لا يعرف فيها الصيف من الربيع من الشتاء من الزفت ؟ رمل في الأرض وحولي شقق وشوارع وسيارات وإشارات مرور، ماذا افعل هنا ؟ أين اذهب ؟ مع من أتحدث ؟مع القمر المطفي أم السماء التي لا تتبين بها نجمة ؟ وأين يد الوالدة الحنونة تغطيني بالليل ؟ أين أحاديثها وملاعبة أخوتي وخواتي في ليالي الصيف على سطح بيتنا . أين نسمة الهواء الزكية أين ؟؟ أما هنا فرائحة عرق الشباب وقنادرهم تزكم أنفاسي . ورائحة المجاري . والفار تجحر بيه يجحر فيك تنش عليه ينش عليك . يتجول في ساحة الحوش دون أن يحسب لك حساب . وكل ما تخشاه أن تستيقظ فتجده يقاسمك الفراش وياما حدثت مع الشباب . عندما اجلس احدث نفسي أقول " الله يسامحك " لا ترسل لي رسائل . لا أريد بعد اليوم رسائلك أنت. فأخي احمد أصبح كبيرا اليوم وأريده هو أن يخبرني بأحوالكم. وقد تفكر الوالدة عندما تعلم بهذا كله بان أعود لكم. سأعود . فقد قررت منذ أول أسبوع غادرتكم فيه ان اعود . لكنني بعد شهور مزقت التصريح . نعم مزقت التصريح الذي لم تحصل عليه إلا بعد أن حنيت راسك لتقبل يد الحاكم العسكري . ولن تكون أبا لي ولا لأحمد إن لم تفكر بعد اليوم بان ترفعه. راسك إلى الأبد . لا بأولاد عمومتك المنتشرين على وجه الكرة الأرضية يحنون رؤوسهم ويحنون رقابهم السمينة للأسياد . لا .. فأنت يا صلاح الحراث السيد . أنت السيد بعد اليوم يا أبو صالح وسترفعه بعد اليوم راسك قوياً كسكة المحراث ليشق السماء .

 

 

 

 

 

 

 

أحمد حسن

 

(إلى محمود درويش)

 

 

يترنحون . الآلات تدقدق ، تصفر ، والشوارع تتهدم . تحفر ، والأنابيب الكبيرة تلقى في الحفر ، وتقترب الجرافات وتبتعد . وتقترب وتبتعد . تهدم ثم تهدم . السواعد والوجوه السمراء المقدوحة بالشمس مبعثرة في الحفر وفوقها على طرف الشارع والسيارات الفارهة سيل لا ينقطع . مسرعة تثير الغبار على الجباه المتصببة عرقاً وصبراً . يترنحون في عمل دائم، خلية نحل سوداء، من مطلع الشمس حتى مغيبها وجع الأظهر والسواعد والسيقان ينتظر الساعة السادسة. الوقت يطول الدوام يطول والشوارع تهدم وتردم، والسادسة هي الحلم الممكن والمسموح . كان احمد حسن بينهم، بملابس زرقاء داكنة، يعمل على ماكينة حفر الإسفلت. قامته انحنت قبل مائة عام، قبل مئات. احمد حسن سقطت بطاقة عمله . في الساعة الحادية عشرة ليلاً قرر الذهاب للبحث عنها قبل أن تأتي الجرافات في الفجر وتقلب الأرض عاليها بسافلها . هناك عند طرف الشارع الذي كان يحفره اليوم لا بد أنها سقطت من جيبه. احمد حسن يفتش كدجاجة في التراب . والسيارات في الثانية عشرة ليلاً قليلة . تمر بسرعة . هائجة بسبب وبلا سبب ، احمد حسن كان متعباً والبحث عنها أيأسه وحيره . قبل أن يرفع ظهره المنحني قذفته سيارة كالبرق انحرفت قليلاً فاردته ذبيحة لا حراك فيها في الحفرة الكبيرة . للحظة ارتمت الجثة ، مصلوبة فوق الاسطوانة ثم ترنحت ممرغة بالرمل . السيارة غابت بعيداً مسرعة وحيدة . في الصباح تدفقت القامات المحنية ، ودبت الحياة في الجرافات وبدأ الردم . وصعدت الشمس وبدأت قسوتها ، وبدأ الحشد ينغل كالنمل يترنحون السيقان المعروقة تتحرك . الأعين المقتولة قبل مائة عام. الجباه المنخورة بالعذاب . البطاقة المتروكة. ملقاة، مهملة، والنمل والحشرات تبحث عن جثته. بلا جدوى قاتل احمد حسن الممكن للنمل والحشرات. الحشرات تحتج على وطن لا تجد فيه جثة ميتة تأكلها. احمد حسن القطع غادرنا قطعاً قطعاً . لحماً ودماً وعينين نصف حالمتين. احمد حسن القطع غادرنا قبل موعد سفره لأهله بيومين، بأيام ثلاثة بسنين. لم يكن موعد سفره محدداً تماماً . لكنه غادرنا قطعاً قطعاً بطريق البر والبحر . احمد حسن في الأرض . احمد حسن القطع يتحول. احمد حسن على مقربة من ثروات الأرض. احمد حسن القطع في الاسطوانات . في الجرافات في الميناء . بعينين نصف يائستين . بساعد معروق بالتاريخ . بالتواريخ المعروقة بالهزائم المعروقة بالقهر . بالقهر المعروق بالمذلة . المذلة تزاحم الحشرات . الحشرات تحتج على هذه المزاحمة المستمرة. وتريد وطناً بلا ذل منتشر. تحتج على هذا التعب المتواصل دون جدوى، واحمد حسن القطع يحتضن الأرض مودعاً قبل مغادرة الميناء. قبل تصديره ، احمد حسن غادر بغير هوية أو جواز سفر أو تصريح ، غادرنا بغير ختم . الخراف تضيق بالأختام على الجلد المسلوخ، الخروف المسلوخ تحولت ساقه عند المساء إلى قبضة أمسكت بيد الساطور. قبضت عليها جيداً . ترجلت من الوضع المقلوب وهوت على يد الجزار فبترتها . وجن الجزار من زمن تنزل فيه الذبائح إلى الشارع وتمشي مسلوخة وجنت الخراف من زمن تختم فيه مذبوحة. الخروف غادر وضعه . غادر جلده متخلصاً من الختم . الأختام تحتج من زمن تمشي فيه الخراف بدون جلود.

 

احمد حسن لم يحتج على شيء لم يتمرد على شيء لم يخرج من شيء إلا من الأرض والميناء والهواء. احمد حسن القطع وطأت قدماه لأول مرة موانئ الغربة التي ضخته الأنابيب إليها . لملم قطعه، الساق المبتورة، اليد، الأحشاء، الرأس المفلوق، وعاد، بعينين نصف حالمتين. احمد حسن العائد لم يستقبله احد في المطارات والموانئ. لم يتعرف عليه احد. نسي أن يختم من هناك بخاتم التصدير. احمد حسن العائد بدون شهادة ميلاد . بدون جواز سفر، بدون إذن زيارة، بدون أي وثيقة مختومة تثبت انتمائه. احمد حسن العائد تورط . عاد إلينا فتورط . كل الوقائع المسجلة المختومة . كل الشهادات . كل الملفات تفيد انه توفى بضربة شمس . انه مات. احمد حسن. يبحث عن مخرج . عن غير تصديره مرة أخرى قطعاً قطعاً ، يبحث عنا . عن وطن غير الأنابيب . والأنابيب ترفض تصدير أحمد حسن العائد . يتورط .لا الموانئ تستقبله ولا المطارات. لا الناس تعرفه ولا الأختام . لا الشمس تعرف جبهته السوداء ولا الحشرات. الحشرات ما تزال تقتفي آثار القطع ورائحة الدم. وتحتج على أحمد حسن القطع . احمد حسن العائد تنكره الحشرات والسواطير والأنابيب والإسفلت والشوارع والماء والشمس والهواء. احمد حسن العائد يبحث عن مخرج . يبحث عن ختم . يبحث عن جلد يختفي تحته. الخراف المسلوخة رفضت أن ترتدي غير جلودها الأصلية. قابل احمد حسن العائد المتورط خروفاً بدون جلد . " هيا ... دلني الآن على الجزار " أحمد حسن العائد يقتفي آثار خطاه. الخروف يرفض أن يدخل. أحمد حسن العائد يدخل ويعلق نفسه بدلاً من الخروف. وبعينين نصف دامعتين يتعرف على وجوهنا ويحتضن ساطور الجزار.

 

1980

 

 

الطبــــــوش

 

 

في عصرية يوم مشمس ، كان الطبوش يسقي حماره قبل أن يهرول للحواكير ، لم تنتبه بعض النساء في الحاووز لتصادف وجوده في الخارج ووجود من كانت زوجته في الداخل تملأ جرتها.

 

مرت أكثر من سنة دون أن يقف الطبوش ويلوح بعصاه من مكان ? وسط القرية ? مطل على بيتها الجديد مع زوجها الجديد الذي كان عشيقها . كانت تمر أيام وأحياناً أسابيع دون أن تضحك القرية بنسانها قبل? رجالها على الطبوش وهو يقف يلوح بعصاه وينادي على من خانته بأن تثوب إلى رشدها وتعود إليه . في البدء حاول الناس إسكاته وردعه عن الألفاظ الفاضحة وهتك سرها وسريرتها مع عشيقها لكن الطبوش وهم يردعونه ويوبخونه رفع لهم جلبابه وكاد أن ... ليشاهدوا .. أن خيانة شهلة كانت بدون سبب . فما كان من أهل البلد إلا أن اعتادوا على فوراته بين الحين والآخر وألفوها . وحين هجرته شهلة إلى الأبد مع زوجها الجديد كان الطبوش يسبق أذان الصبح كل يوم ويزعق بعالي صوته على شهلة النائمة في أحضان أبي فروة . " أين رأثك يا أبو فروة " وبنهال بالحجارة على باب " الخشة " ( المكان المؤقت لشهر عسل أبو فروة مع شهلة الشهية . ) في كل ذلك لم يكن أبو فروة يحرك ساكناً ولا كانت شهلة تعيره اهتماماً . كان يصرخ ويسب ويلعن ويفضح ويرفع جلبابه ويشير ، يمسك بسرواله مضموماً ، يلوح بعصاه ، يدغدغ مشاعر الصبايا المراهقات ، يثير الضحكات الخجولة الملتذة بين النساء ويتعب وينصرف ولا تتعب الألسن من سرد آخر ما قام به وآخر ما قاله لشهلة في الطوابين وفي ليالي الصيف وساعات السمر. تتحدث النساء عن قصة أبو فروة وشهلة . يقلن أن شهلة امرأة غير كل النساء ، يقلن أن شهلة خطفت أبو فروة وأن زوجة الأخير لاذت بالصمت . لكن زوج الشهلة القديم معذور فكيف يمكن أن يسكت . إن في سكوت الطبوش هناء وراحة بال لشهلة وأبو فروة . وفي الأسابيع التي يسافر بها الطبوش إلى القرى المجاورة كانت قريتنا تفتقد طقساً من طقوسها فلا يكاد خبر عودته إلى البلد من سفره ينتشر حتى ينبري أحد الزعران الشباب فيدبر له مقلباً . وقد كان حامد في الثالثة والعشرين ? الرأس المدبر لكل المقالب التي وقع فيها الطبوش حتى لم يبق الأخير لا مكشوف ولا مغطأ من أعراض أم وخالات وعمات وجدات حامد ولم يكن حامد ليرتد بعد كل مقلب إلا ليدبر للطبوش مقلباً جديداً بالتعاون مع أخته المسترجلة ? عانس في الأربعين ? فذات مرة صدف أن ماتت دابةً من دواب البلد الكثيرة . فذهب حامد بصحبة بعض الزعران معزياً أبا جرابة صاحب المرحومة . وأقنعوه بدفنها بعد أن تكفلوا ? هو والزعران ? بشراء كفن أبيض لها فحفروا قبراً في حاكورة الطبوش ودفنوها . وما أن عاد الطبوش إلى البلد قادماً من بيع لحم العجول للقرى المجاورة حتى سرت الشائعة بأن شهلة مرضت وأن أبو فروة تخلى عنها في مرضها وعاد لزوجته الأولى وأن شهلة قبل أن تموت أوصت بأن تدفن في حاكورة زوجها الأول . فما أن سمع الطبوش بالخبر حتى أخذ يجعر واقتاده حامد والزعران إلى القبر ، فأصر الطبوش أن يحفره ليلقي عليها النظرة الأخيرة . حاول الشباب أن يمنعوه لكنه أقسم أن " ثهلة أحثن " من أمهاتهم و " اثرف " من كل جداتهم وعماتهم وخالاتهم فتركوه يواجه المفاجأة بنفسه وانصرفوا من حوله في حين كانت النساء والرجال في البيوت المطلة على حاكورة الطبوش يتابعونه وهو يحفر قبر شهلة فما أن شق الكفن بسكينه حتى كان بوز الحمارة في بوزه فأغمي عليه على الفور وأخرجه الزعران ورشوا على وجهه الماء فما كان من حامد إلا أن واصل التمثيل فلما فتح الطبوش عينيه قال له : لا حول ولا قوة إلا بالله : لقد مسخها الله إلى حمارة على فعلتها بك فلا ترتعب ولا تأسف فما هي إلا مشيئة الله . ومنذ ذلك اليوم والطبوش لا يخالجه الشك في ما رأى فكان هذا آخر مقلب شربه بعد رحيل أبو فروة وشهلة عن البلد .

 

أما اليوم فقد مرت عشر سنوات على تلك الطقوس التي ما تزال النساء يتذكرنها بين الحين والآخر. عشر سنوات لم يزر فيها أبو فروة وشهلة البلد .عشر سنوات والطبوش يقرأ الفاتحة على قبر حمارة أبو جرابة . وفي كل مرة يطلب من الله أن يسامحها. وأن يعفو عنها وأن يهبها الستر من عنده . عشر سنوات كبر فيها أولاد أبو فروة من زوجته القديمة والذين ألقت سلطات الاحتلال عليهم القبض بتهمة حيازة أسلحة وانتمائهم للمنظمات الفدائية . عشر سنوات دون أن يعرف أن القبر الذي يقرأ عليه الفاتحة ويحرسه كل يوم ما هو إلا مستودع للأسلحة التي لمها أولاد أبو فروة في حرب 67 من وراء الجنود الهاربين ودفنوها حيث يقيم الطبوش صلواته كل يوم وأدعيته بحفظها ذخراً له في يوم الدين واليوم عادت شهلة بعد أن قتل أبو فروة . عادت وحيدة . تملأ جرتها من الحاووز الذي وقف الطبوش خارجه يسقي حماره. بعض النسوة لم تخطر ببالهن المصادفة ، والبعض الآخر أمات الاحتلال حس الفكاهة في قلوبهن أما صبحة أخت حامد ? المحكوم بعشرين سنة سجن ? فقد استعادت ذكرياتها القديمة ولم تملك سوى أن تخرج لتنادي عليه فظل الطبوش ساهماً .. يستمع إليها كأنما يستمع لحكاية قديمة وباهتة.

 

كانت صبحة ? أخت حامد ? تؤكد له وجودها .. داخل الحاووز وتحلف له الأيمان بيأس عانس تجاوزت الخمسين لكن الطبوش لم يحرك ساكناً لم يسب لم يشتم . فقط كان يشعر بمقلب فاتر لا طعم له . ساق حماره أمامه ومضى في الطريق وفي الوقت الذي عبرت الشارع سيارات العسكر الذين ترجلوا من سياراتهم وأعلنوا بمكبرات الصوت منع التجول. لكن الطبوش ظل راكباً حماره تجاه الحاكورة . قهقهوا حين شاهدوه .. أطلق أحدهم النار على الحمار الذي يركبه فبرخ. نهض الطبوش وأكمل الطريق ماشياً . كانوا وراءه يسيرون.. هو، وهم، إلى ذات المكان الذي يقصدونه وينتهي بهم جميعاً. فقد وصلهم الخبر أن أولاد أبو فروة دفنوا الأسلحة في حاكورة الطبوش . فجاءوا يبغون الطبوش فوجدوه أمامهم . كانوا سيطلبون منه أن يذهب معهم ليفتشوا أرضه ويدينوه بحضوره فوجدوه يسبقهم. باشروا بتفتيش ونبش الحاكورة فظل يراقبهم . واقفاً أمام القبر موقناً أن الله استجاب لدعواته وأعادها إلى خليقتها الأولى . فلما اقتربوا من القبر لينبشوه ويفتشوا فيه غلت الدماء فجأة ودون أن يتوقعوا منه أية حركة هب إلى الفأس وهوى بها على رأس أحدهم ، سمعت أصوات عيارات نارية . وقبل أن يغمض عينيه شاهدهم يخرجون أسلحة من القبر فلم يفهم شيئاً من مشيئة الخالق. مع ألمه كان يبصر المشهد . لم يكن الوقت مواتياً ليفهم أي شيء سوى أنه أضاع من بين يديه فرصة مواتية.

 

ظلت شهلة تملأ كل يوم جرتها . وكلما تقدم بها السن ازدادت جاذبية . قتل أبو فروة فازدادت جمالاً وقتل الطبوش فازدادت فتنة وثمة عشاق جدد لا تعلم متى يدقون بابها .

 

في عصرية يوم مشمس كان الحاووز لا يزال يعج بالصبايا الشهيات يملأن جرارهن وكان لا يزال ثمة زعران فتيان في الحارة . وجسد الطبوش ساخناً لا يزال وثمة فتيان زعران في الحارة.

 

25 / 2 / 1981

 

 

 

 

صباح الخير أم الخير

 

 

للشمس ، للبحر المبهور بالضوء توا ، لهدأة الصباح واستيقاظ بائعي الصحف ، للتعب الجميل . صباح الخير للسهر المحمر في العينين، للغبار في الملامح الملوحة بحر الكدح الصيفي، صباح الخير أم الخير للقيظ القادم، للظهيرة الحارقة، للرمل للصحراء، للعرق، للملح، للسواعد، للطرقات للموج المتصاعد، للغضب للأشرعة، للنجم البعيد صباح الخير. هذا أنا لم أنم بعد. استيقظ الخبز البسيط في دمي فأتيت . ارتفعت السواعد في قامتي ، فوقفت ، شامخاً بالفخر ، قوياً كإصرار بسمتك الحنونة . وفياً ، كمواسم الزيتون ، ممتلئاً . اشتاق كعطش الأرض . أهيم كغيمة تتلاشى في تراب يديك . ها أنا ، لم أزل ساهراً ، صادقت فيك التعب ، آخيت فيك الانتظار .

 

أبو الخير جاء . والأولاد ذهبوا للعمل . ألم تزل ساهراً ؟

 

صباح الخير للعمل ، لأبي الخير صباح القادمين .

 

أبو الخير نائم . أنت ذهبت وهو جاء . شقشق الصبح وأنا أعجن. شو بدي أعمل يا ابن عمي?

 

للعجين، لاصطلاء راحتيك، للطحين، لحنينك للطوابين. للذكريات صباح الخير .

 

طار من عيني النوم . سأغسل وأعد لهم الغداء قبل أن يأتوا. تعال تغدى معنا ....... لا تنسى .

 

وفي الليلة السابقة كنت قد مررت بها واقفة بالباب باستبسال محارب لا يقهر تنتظر زوجها الذي تأخر. من السادسة صباحاً حتى السادسة مساءاً يعمل أبو الخير في شركة حمالاً للمكيفات والأجهزة المستوردة. براتب لا يكفي لاستئجار ملحقاً . وبعد العتالة يبيع القهوة على الشاطئ وفي الحدائق العامة . يعود من عمله اليومي فيجد القهوة الساخنة بانتظاره، والفناجين قد جهزتها أم الخير في سلة مع القهوة الماء. لم يعتد أبو الخير أن يتأخر عن الساعة العاشرة من كل مساء، الليلة السابقة تأخر. في الليلة السابقة ركلته سيارة على الشاطئ . لم تعالج ساقه المرضوضة . لم تضمد جراحه في المستشفى . لم يطلب من الذي ركله حقاً غير خمسين فلساً ثمن فنجان القهوة الذي شربه. بقصد بغير قصد لم تكن هذه القضية . أبو الخير يريد أن يعود في الوقت المحدد بدون تحقيقات بدون تعويض بدون إيذاء احد. تعطيل أحد . عثر عليه مغمياً ممسكاً بفناجين القهوة بقبضة لتسعة أطفال |. في الثانية بعد منتصف الليل جاء . بعد أن انتشر أولاده وبناته بحثاً عنه. في الثالثة بعد منتصف الليل ضمدت أم الخير جراحه . مسحت الغبار عن وجهه الأسمر .

 

في الليلة السابقة مررت بها واقفة باستبسال عينين لا تستجديان أحدا بعناد عينين لا تريان غير إصرار الجبال. بقامة المحارب تنتظر على عتبة باب خشبي " لحوش " سيهدم .

 

طلعتهم من المدارس . خليهم يشتغلوا ويساعدوا أبوهم .

 

في العاشرة من عمره ، يستيقظ قبل الضوء . يستيقظ قبل جفاف حبر المطابع، يسبق الخبر، القرار، المراسيم، المقال في الجريدة، ويمضي العاشرة من عمره ولعينيه حجم السؤال الكوني، وقوة الإضراب عن العمل.

 

الصنعة مليحة يا ابن عمي . أخوه أخذ التوجيهي وارتمى في وجوهنا، في الليلة السابقة رأيتها شجرة زيتون في صحراء. تمنح الخير ولا تأخذ ، تمنح الخبز ولا تطلب .

 

حلفتك بالله تاكل . زيت من زيتون بلادنا . الخبز خابزته على ايدي ، في الليلة السابقة وقفت بزيها الشعبي .

 

عندما تنوي الزواج سأفصل لعروستك ثوباً من ثياب بلادنا .

 

لعروستي اشتغال يديك ، تعاريج التطريز في الثوب البلدي . وانتظارك .

 

لعروستي جدائل الليل ، قوة الاحتمال وانفجارك ..... بالتعب والعطاء.

 

في الليلة السابقة لم تنم أم الخير . روبت اللبن وجهزت الخبز بزيت وزعتر .

 

في الليلة السابقة لم تنم أم الخير في جفني. رشت على سهري قوة حضور ذكريات . دخان الطوابين والندى . صوت ديك الصباح . تهليلة جدي . تفتح براعم . انشقاق ورق الشجر بالخضرة الدائمة . انبعاث رائحة حرث الأرض . موج سنابل القمح . فورة النبع . جريان المياه أنت.

 

ساق الله على هذيك الأيام . الميه من نبع العين مثل البوزة . ميتهم ثقيلة يا عمي . الله يجازي اللي كانوا السبب.

 

في الليلة السابقة لم أنم. ذاكرتي والسهر. ذاكرتي وقامتها الممتدة أمام بيت متداعي الجدران .

 

انذرونا . بدون خلو وبدون محاكم .

 

في الليل وذاكرتي . في السهر طعم الخبز البسيط، الدم المشتعل. في الليل والنجم البعيد أنت اختصار المسافة . في الكتب المحجوزة بالبريد ، في المواعيد المراقبة . الخطى المقتفاة. في القمر المطل من قضبان زنزانة . في المساحة الغائبة سنهاجر .

 

أين سنذهب ؟

 

لسفوح الخارجين عن القبيلة. للورد الطالع سراً . لقامة جندي عاص . لفرار عصفور لأغنية ممنوعة . ليدين من تعب وملح . لبندقية عائدة.

 

حنطية اللون في الأربعين ، لملامحها تضاريس المحراث وقوته ، ولبسمتها فرحة الندى تجيد خياطة الأثواب الشعبية ولا تجيد المساومة . تستلم ما يعود به أولادها من نقود بيع الجرايد وبيع "البليلة" ما يعود به أبو الخير من بيع القهوة ، والعتالة ، توزعه بين أجرة للبيت ومصاريفه ، ترتق الملابس بعد غسيلها وتتفقد أزرارها . في الأعياد تجيد عمل الكعك بعجوة والقلاج . في العزائم تجيد عمل المفتول ، والمسخن . ثوبها الشعبي الأسود المحلى بتطاريز الأخضر والأحمر يلازم قامتها . لم تستبدله كبقية الفلاحات حين غادرن المدينة . لم تشتر قماشاً غير الأسود . لم تساوم أسعار الفساتين الجاهزة لم تزر خياطاً لتفصيل الماكسي أو البنطلون أو التنانير .

 

لم تتورع عن محادثة الرجال يوماً ، لم تتحاشى زيارة المريض منا ? في سكن العزاب ? وتزويدنا بالميرمية والزيتون .

 

في الأعياد ترسل لنا الكعك بالعجوة قبل أن يستيقظ الشباب من نومهم.

 

تدعونا للعشاء إذا شاهدتنا . تسألنا عن أمهاتنا في البلاد عن أخواتنا . عن مشاريع الزواج إن راودتنا. تسألنا عن الأخبار . ترسل لنا جريدة كل اليوم . تسألنا عن الفدائيين الأبطال . عن لبنان . عن أبي الطبيخ كما تعودت أن تسميه . وتعرف أن أمريكا عدوتنا . وتعرف أدعياء الدين . تعرف أمريكا عدوتنا . أن الحكام باعونا. أن الخيانة مستمرة استمرار تشردنا. أن أبو الخير ما غادر البلاد مختاراً.

 

? لو كان لنا بيت أو قطعة ارض لما غادرنا ز طوال عشرين سنة وأبو الخير يشتغل بالسخرة . يحرث بالإيجار . يزرع بالإيجار . والحال من بعضه يا ابن عمي، قضينا كل ها العمر ساكنين بالإيجار. لكن إيجار عن إيجار يفرق ، كنا هناك نشتري تنكة الزيت والزيتون وهنا نشتري الزيت والزيتون .لكن زيت عن زيت يفرق .

 

لم يبق سوى شهر أين سنذهب ؟

 

لبلاد من شوك وصخر .. لسفن لم تنقل البترول والبضائع المستوردة . لبحر لم يتلوث بعد . لبلاد تضيق من البلاد وترفع حرابها بالعصيان . لبلاد تمتلكنا ولا نمتلكها ، للحلم الجميل في صباح مخمور . لشجر سوف نزرعه عند انبثاق المساحة ، لجموع تلتقي . لسواعد تتوحد . للموجة إذ تلغي الموجة . للعواصف . لغيمة لا تمطر ذهباً . للغيمة التجاوز ، للطيور الآتية من الحلم . لنجم بعيد يقطع إلينا المسافة لعشرات البنادق العائدة من الحدود والجبهات معبأة ومعبأة .

 

1980

 

 

 

 

 

 

 

 

حميد يدخن سيجارته بهدوء

 

 

- ناوشني خمسة دنانير

 

- تفضل .. لا تنسى ما وعدتني به . سأحضر بعد ساعة، بالعجل، ها عيني ؟

 

بعد أن وضع الخمسة الدنانير بجيبه :

 

- هاي شلون بالعجل ، لازم شغل نظيف ، تعال بعد ساعتين ،

 

- ليكن !

 

عدت بعد ساعتين فلم أجده بالكراج . دخلت البقالة المجاورة لم أجده . ناديت بصوت عالي :

 

- حميد .. يا حميد

 

جاءني الصوت من أسفل سيارة فولكس صغيرة محطمة :

 

- هاي منو ينادي حميد ؟

 

- صاحب ترمبة البنزين . ها .. نظفتها ؟

 

- يا طرمبة .. يا بنزين ؟

 

هذا المخلوق منذ الأمس يكاد يذهب بعقلي. في البدء رفض أن يفك الترمبة عن السيارة. جاء معلمه . . نهر عليه فلم يستجب إلا ببطء شديد. رمى السيجارة وببطء سلحفاة باشر العمل . استعصى الفك فحمل شاكوشاً ودقدقها على رأسها . استعصى الفك فخلعها .

 

هذا المخلوق منذ الأمس يكاد يذهب بعقلي. قلت له إذا كنت لا تعرف دع معلمك يفكها. استشاط غضباً :

 

- يا معلم .. يا سيارة مو بالعقل . شنو ما تنفك . تنفك .

 

وخبطها بالشاكوش فناديت يائساً على معلمه . قال المعلم :

 

- ولك حميد .. شنو تسوي صار لك ساعة ؟

 

لكن حميد لم يجبه إلا بعد أن اخذ نفساً من سيجارته.

 

- قاعد أفك مذهبها. هاي شلون ترمبة شلون تركيب ..

 

بعد أن ألهمني الصبر جاء معلمه. وخلال دقائق كان يحملها من بين يديه ويشير إلى حميد بنصائحه لتنظيفها. استبشرت ليلة الأمس خيراً بان ينتهي الموضوع خلال ساعة. لكن حميد بعد أن فكفك مذهبها قطعة بقطعة غسل يديه بالبنزين ودخن سيجارة أخرى ، ولما كان معلمه قد غادر الكراج ، اخذ يثرثر مع صاحب البقالة الذي كان ينظر إلي مبتسماً .

 

قلت وصبري يكاد ينفذ :

 

- يا أخ حميد.. الترمبة !

 

خندخن جيكارة عيني ، شبيك تريد تخلص بالعجل !

 

قلت :

 

- ورانا شغل

 

لم يكترث . عاد بعد انتهاء السيجارة ودلق على أجزائها بنزيناً وسخاً . ثم دلق بنزيناً اقل وساخة .

 

ثم خضها وخضها وقال :

 

- هات طقم إصلاح

 

- هذا هو

 

- بكم شاريه ؟

 

- بثلاثة

 

.........

 

اخذ ما يلزمه من العلبة الجديدة وبدأ عملية التركيب ودلق البنزين ، بعد قليل أحسست انه متورط يجرب الضخ يجرب الفك والتركيب فلا ينفع يقلبها على قفاها فلا ينفع ، على جنبها أيضا دون جدوى . يخضها ويخضها .

 

قلت له:

 

- إذا كنت لا تعرف تركبها دعني آخذها لميكانيكي آخر.

 

لم يكترث ولم يعلق . نظف يديه نهائياً . جففها بقطعة قماش سوداء .

 

كانت بيضاء على ما يبدو ثم قال :

 

- تعال باجر الظهر.

 

كان علي أن أرضخ استلهمت كل قدراتي الباقية على الصبر وسألته:

 

- أكيد ؟

 

- ها .. شلون أكيد .. إحنا نجذب !

 

- لا .العفو. ..

 

- باجر الظهر.

 

وعندما أتيت اليوم ظهراً وجدته جالساً يدخن سيجارته ويتحدث إلى صاحب البقالة المبتسم دائماً . قال قبل أن اسأله :

 

- ناوشني خمسة دنانير .

 

فناوشته بالتي هي أحسن ظناً مني أن قصة إبريق الزيت انتهت.

 

وعدت الآن بعد ساعتين لأجده تحت سيارة محطمة يصرخ من أسفلها:

 

- يا طرمبة يا بنزين .

 

ماذا افعل ؟ منذ البدء أحسست أنني متورط لكن ما هو السبيل الآن ..

 

قلت له :

 

- ناوشني الترمبة والخمسة دنانير .

 

زحف من تحت المحطمة بملامح ملغمطة بالدهن والسيجارة لا تفارق شفتيه

 

- انطرني .

 

- أين المعلم.

 

- يا معلم يا زفت .. قاعد أقول لك انطرني .

 

- لا أريد تنظيفها .. أعطيني إياها لآخذها لميكانيكي آخر.

 

ببطء شديد عاد إلى وضعه السابق واختفى تحت المحطمة .. همهم قائلاً :

 

- خذها .

 

- اينها ؟

 

- داخل .

 

ذهبت بها إلى ميكانيكي آخر وخلال ساعة وثلاثة دنانير ركبها الآخر بخفة متسائلاً :

 

- منو حمار سوي هالشكل ؟

 

عدت لصاحبي كي يشدها في موضعها السابق فوجدت هرجاً ومرجاً . دشاديش مرفوعة عن السيقان ، معفري الوجوه وكلهم يدفشون الفولكس وبداخلها حميد جالس خلف المقود .

 

قال لي البقال الذي كان لا يزال مبتسماً .

 

- الحق بحميد .. بسرعة قبل أن يسافر عائداً إلى الهور .

 

لم افهم . فكرت قليلاً . نظرت إلى السيارات في الكراج يعلوها الغبار . إلى الحشد البشري الصاخب بالضحك والصراخ مندفعاً وراء فولكس محطمة ، وكان حميد ما يزال يدخن سيجارته خلف المقود . قال صاحب البقالة ? الذي كان لا يزال مبتسماً :

 

- سافر حميد إلى البصرة اليوم .

 

تساءلت :

 

- في إجازة ؟

 

اتسعت ابتسامته مندهشاً:

 

- ترك العمل هنا ؟

 

- وهل كان يعمل ؟ لقد جاء قبل ثلاثة شهور ليشتري سيارة فولكس لكن المبلغ الذي كان يحمله لم يكفه فصرفه هنا دون أن يعثر على سيارة مناسبة .

 

كشفت سر ابتسامة البقال الدائمة .

 

- لم يكن ميكانيكياً إذن ؟

 

- أبدا .. وقد صمم منذ أول يوم عمل فيه في الكراج أن يزيد السيارات الأمريكية التي تأتي إتلافا . حظك مليح انك كنت تتابعه وهو يعمل بسيارتك.

 

- أنت خبيث .. لماذا لم تنبهي لذلك ؟

 

- ولماذا اقطع رزق حميد ؟

 

- كنت مبتسماً طوال الوقت الذي استنفذ فيه أعصابي إذن !! سامحك الله .

 

- وعلام تستنفذ سيارات أمريكا أعصابكم !

 

- حميد إذن جاء من اجل سيارة !

 

- اجل .. ولم يشتر واحدة . بحث عن صاحب الفولكس . ودفع له عشرون ديناراً وحولها باسمه .

 

- بعشرين ديناراً !

 

- واشترى ماتوراً من السكراب .

 

- وسافر بها إلى الهور ؟

 

- إذا أوصلته ! من المفترض أن يكون يكون متألقا بها. أما هنا فقد كانت حديداً ولم تكن سيارة.

 

- وصاحب الكراج ؟

 

- لا يعلم بأمره . نصب حميد عليه وأقنعه بأنه عمل عشر سنين في تصليح السيارات .

 

كان يتحدث هذه المرة وقد اختفت الابتسامة عن شفتيه، وارتسم في عينيه حلم كأنما توشك حراب ما أن تنقض عليه.

 

غادرته وقد بدأت الشمس تغيب عن لافتة " بقالة فلسطين " .

 

 

 

حلم العصافير مضى

 

 

1- القبعــــــــة

 

 

يذكر أن ذويه أخبروه أن الداية باركت رأسه لحظة ولادته .. وشهدت بعجب أن رأساً كرأسه لم يخرج من بطن أنثى . كما يذكر أن بائع القبعات قال له :

 

- أرى أن تفصل قبعة. فلن تجد ? عدم المؤاخذة... وأشار إلى رأسه ففهم بأسى .

 

- وقال آخر :

 

- هذه أكبر الأحجام لدي... ولن تجد أكبر منها ? عدم المؤاخذة. كما يذكر أن طفلاً أزعر رمقه وهمس

 

- كبير. كبير ..

 

جحظت عيناه يومذاك بالطفل فلم يبال الأخير :

 

- قد البطيخة ..

 

آثر هو المهادنة واستدار تقدحه حرارة الشمس عمودية على " دافوخه " .

 

2- صديــق

 

- أنت مخلوق لتكون عبقرياً أو عالماً فذا لك أخ ، أخ لو لم تولد في منطقة متخلفة ، لوجدت من كنوز حضارات الأمم ما يملأ ...

 

3- تقريـــر

 

... أما أحمد المختار فانه عامل مخلص ومجد لولا قلة احترامه للقوانين التي ما انفك ينتقدها ويبث أفكاره التحريضية ضدها. فما من إجراء اتخذته بقصد زيادة الإنتاج وانضباط العاملين في المؤسسة إلا وخزقه بأفكار من رأسه .. الملعون انه لا يزال رغم النصائح والتوجيهات الصوت النشاز في الاوركسترا التي تعزف لحن العمل الجميل ، وما أجمله من عمل ، منه نقتات ، ومنه نبني الحياة السعيدة ، نرجوا مزيداً من كسب رضاكم على المؤسسة .. كما نرجوا لأحمد المختار أبو رأس أن ينعدل إلى الطريق القويم .

 

4- حلـــم

 

شاهد مجموعة كبيرة لا أول لها ولا آخر من الخراف المسلوخة تمشي بدون رؤوس يقودها مجموعة من الجزارين والدماء لما تزل تنزف منها . واستلفت نظره رأس كبش كان لا يزال مرفوعاً يشاهد عن كثب ما حل بالخراف الكثيرة ودون أن ينخفض ولو قليلاً. ولما انتبه الجزارون لرأس الكبش المرفوع وجدوا أن منظره مشوه للمجموعة. فاقتربوا منه و ?. استيقظ مذعوراً وهو يمد بفزع يديه إلى رأسه ويتحسسه . اطمأن قليلاً وانطلق من سريره إلى المرآة . فاطمأن أكثر ولكن بانزعاج وأسى . واستذكر الحلم الذي شاهده فأطبق الحزن على عينيه و " خناقه ".

 

5- تفسيــــــــر

 

حزن لأحلامه الجديدة . فقد كان يحلم انه عصفور يحلق فوق البساتين وبيارات البرتقال والمروج الخضراء والوديان .. ولم يكن رأسه الثقيل على المخدة يحول دون تلك الأحلام الجميلة . أما وقد انتقل من حلم العصافير إلى حلم الخراف فتلك مسألة لم يفسرها إلا بعد جهد. فقد تذكر الحلم صبيحة يوم من أيام عمله المبكر. وإذ مد يده لينفض الغبار عن مؤخرته قبل مباشرته التوقيع على ورقة الحضور اليومي للعمل ، استلفتت نظره تلك الضخامة التي انتفخت إليها إليته والنتوء الذي باشر بالبروز في عجيزته .

 

1978

 

 

كان طفلا

 

 

بنطلونه الرطب الملتصق بإليته الخلفية تفضفض من حوله جلد مؤخرته المنقوع بكرسي ساخن لوانيت أغبر . انطلق الأغبر مقرقعاً ساخطاً لاعناً لإلية أخرى بعد أن رمى حمولته على طرف الشارع . سارت الحمولة بصندل مقطع تجاه بوابة المستشفى . بدأت تتسلل نسمة ألطف بعد فرن الوانيت إلى لحمه الخلفي الغارق عرقاً . ظلت الحمولة تسير وتلعن الطريق شبراً شبراً . مد يديه إلى مؤخرته وفضفض بنطلونه المبلل لتخر النسمات ويجف البلل ، بدت الحمولة من الخلف كما لو أنها بالت على نفسها ، وجهته استعلامات المستشفى ، زاحمته البوارج اللامعة الهادرة بحنو المنسحلة بهدوء على الشارع كما الحلم فتوقف قليلاً ، متيحاً لها فرصة ألا تركله دون انتباه ، متأملاً البشرات المتوردة المحمرة ، والملامح الهادئة يواريها زجاج نظيف ، مطمئنة حانية على الرفاه والبرودة . برفق.راتها القصور المنسحلة برفق . برفق . برفق. وهو يحاول عبور الشارع من بينها لو لاحظته. ظلت تمر من أمامه ألوانا وأشكالا ، ضخت البوارج المارة من حوله لهبها وعبقها البنزيني العافر بوجهه حتى صعب عليه استنشاق الهواء . ضاعت النسمات النادرة الهبوب وتلاشى احتمال جفاف بنطلونه . عبقت خياشيمه برائحة هدير السيارات المارة . بصق فشاهدته الوجوه الناعمة داخل البوارج فلمح في نظراتهم ازدراء له، بصقت الحمولة فلفتت الأنظار إليها، في الأماكن الحضارية، مر من بين السيارات كالفأر. دلف إلى الداخل والناس يتحاشون بنطلونه الملطخ بدهون السيارات والكراجات وتراب الأرض ، وشعره الأشعث الذي ساهم في امتصاص غبار الجو والتقاط ما تيسر من حشراته . وقف منتظماً مؤدباً بانتظار أن يفرغ موظف الاستعلامات من الأردية البيضاء والياقات المنشاة والفساتين المنحسرة والأردية السوداء ، ظل متردداً وكلما اقترب قليلاً من المصطفين تحدق عيونهم ببنطلونه المشحوم بالأسود فيبتعدون قليلاً لئلا ، ويجفل هو ويرتد مؤدباً . منتظراً . يتجاوز خجله قليلاً ويهم بأخذ دوره بالاصطفاف . ترمقه العيون مرة أخرى وتنحدر إلى بنطلونه فيرتد . العيون تطرد الحمولة ، الحمولة تبقى وحيدة مبللة بعرقها . العيون تمر بين الحين والآخر على شعر الحمولة المغبر . عينا الحمولة تتأملان الشعر الأملس الناعم النظيف . الشعر المرتب الأسود . الشعور المصبوغة المحمرة . الشعر المتهدل اللامع. عيناه تتأملان البنطلونات المكوية النظيفة ، والأردية البيضاء كالثلج ، والأحذية اللامعة على بلاط لامع ، لا ينقص عددهم ، كلما انطلق احدهم ، كلما انطلق احدهم من أمام شباك الاستعلامات ينضاف إلى المصطفين اثنان أو ثلاثة . قرر أن يأخذ دوره ليسأل. اقترب محاذراً أن يمسهم المشحوم . ابتعدوا عنه قليلاً . ابتعد آخرون فتقدم من الشباك أكثر ، التفت المصطف أمامه إلى المشحوم والأشعث فامتعض وسارع بالسؤال والمغادرة ، فتقدم هو من الشباك .

 

– عائشة عبد القادر .

 

• متى دخلت ؟

 

- مبارح ..

 

• ....

 

- أمس بالليل ...

 

قلب موظف الاستعلامات عدة صفحات ثم فتش بقلمه الذهبي بين الأسماء " مبروك.. ولد " كان محمود أبو عيشة ما يزال يحاذر أن يلمسه احد من المصطفين حوله. " الجناح التاسع " وما كاد يلفظها حتى انسل أبو عيشة من أمام الشباك في الردهات أحس بانتعاش لبرودة التكييف المركزي. واصلت فردتا الصندل زحفهما على بلاط نظيف لامع أنظف من وجهه ، وتهدل أمامه شعر اسود تمطي ظهراً عارياً بشرته شهية ملفوحة بشمس البحر ، برونزية ناعمة ، والى جوارها أنثوية أخرى مسقية بماء الورد . وثالثة حليبية بتنورة منحسرة عن بطن ساقين متساويتين ممشوقتين فوقهما بشبر واحد التنورة الناعمة إذ تشف عما تحتضنه بحريرية . هبت عن جانبه الأيمن إذ مر من جانب باقتهن روائح عطور أنثوية أثارت شهوات لم تتحرك فيه منذ أربعين سنة وضحكات غانجة تذوب بلذتها الأحاسيس والأماني والاحلام . وجميعهن – لاحظ – يعرضن رماناً طرياً ، أثداء نصف مكسية ، مشدودة ومعلقة بالصدور تكاد تسقط بين يديه . نصف معراة نصف مكسية بألوان لم يرها من قبل . أبطأت فخذاه قليلاً وتابعتا السير من خلف المهتزات .. وليهتز من بعدهن الكون كله . دخل حيث دخلن . سار حيث سرن . توقف متردداً خائفاً . كالمشبوه حيث توقفن وذات البنطلون المشدود بشراسة على محتواه الصاخب، عندما تند عنها حركة ينفجر نبع لذيذ في جسده. يتدفق نبع حركتها فيه وينتشي يتدفق نبع اهتزازها ويغمره. سال حيث سألن: ولكن عن زوجته أم العيش، لم تعثر ممرضة الجناح على اسم عائشة عبد القادر بين النزيلات.

 

• متأكد !

 

- نعم في هذا الجناح

 

• جناح 14 !

 

- نعم .

 

• تأكد مرة أخرى من الاستعلامات ....

 

تذكر بينه وبين نفسه أن زوجته في الجناح التاسع أو التاسع عشر أو التاسع والعشرين. ولم يستطع تحديد الرقم تماماً أو تركيز ذهنه على ما قاله الموظف خلف الشباك... .

 

تسربت ضحكات الباقة المتحركة إلى أعماق الجناح ولم يعد ممكنا بعد سؤاله أن يذهب وراءها ابعد مما ذهب..

 

- انزل إلى الاستعلامات وتأكد ...

 

عندما غادر الجناح الرابع عشر لم يعرف من أين أتى.اقترب من ممرضة مارة مسرعة وسألها فأشارت له بيدها دون أن تكلمه. وإذ وصل شباك الاستعلامات وجده دون مصطفين وقد بدأ الزوار يغادرون . دون حاجة لان يفتح الدفتر أجابه الموظف " التاسع " قادته فردتا الصندل إلى الجناح التاسع هذه المرة. وفي زاوية في العمق كانت ترقد أم العيش منطفئة اللون مصفرة البشرة ذابلة الملامح. سألته عن الصغار عن علاء وأنور وخديجة ورنا وعباس وفاطمة وصبحية وقاسم . فحاول أن يقدم موجزاً عن كل منهم خلال ليلة لم تنمها أم العيش وسطهم. وعن صاحب الملك وهل ما يزال مصراً على رفع أجرة الملحق ؟ . وعن الجيران وماذا فعلوا بعد صدور الحكم بالزيادة ؟ ، وعن عمله وهل ما يزال المراقب مصراً علالخلفية.لتأخره عن الدوام ، وعن الكهرباء هل دفعها وعن الأولاد هل يذهبون للمدارس ، وعن استيقاظه مبكراً ، وعن فطوره وغذائه وعشائه وعن ملابسه التي يعود بها مساء كل يوم غارقة بعرقه منقوعة بما آلت إليه الحال من مهانة ، وعن الغسيل المتكوم هل غسلته فاطمة ؟ ، ولكنها لم تسأله هل جف العرق عن آليته الخلفية. فمد يده في تحته ، وإذا ببنطلونه وقد التصق من جديد نديا هذه المرة . وباعد بين ساقيه ليقلل من الالتصاق الدبق الذي برد كثيراً بفضل التكييف المركزي . جاءت العربات تكركر محملة بالعشاء . وأصدرت الممرضة المسؤولة أوامرها بانتهاء موعد الزيارة . فنهض لإلقاء نظرة على كتلة اللحم الملفوفة ، فابتسمت أم العيش لأول مرة وحدقت عيناه المتعبتان في تجاعيد وجه الكتلة اللحمية . فخيل إليه وهو يغادر الجناح انه نظر في وجه كهل. وكان شك أن يكون هذا عمره يوم واحد. فتعابير وجهه صارمة وحادة وعيناه عميقتان . ظل يقطع الطريق مغادراً مهموماً مفكراً وظلت أم العيش مبتسمة !

 

 

كان الصعيد غافياً

 

 

تبعثر

 

رجال الأمن

 

في مطار القاهرة

 

وهرعوا راكضين وراء الصعيدي الذي

 

 

هرب

 

 

الطائرة توشك أن تغلق أبوابها. صفير أجنحتها يتعالى . طاقم الطائرة ينتظر راكباً رفض الصعود بعد أن وقع خاتم المغادرة. سمعهم يتهامسون في قاعة الترانزيت: الطائرة التي سنركبها وصلت. احد ركابها مات بالسكتة القلبية وهو عائد لمشاهدة أهله بعد عشرين... سنة . الصعيدي كان منصتاً . شاهدهم ينزلون الجثة الهامدة. غامت الطائرة في عينيه . طار قلبه . سمعهم بعد ذلك ينادون بالميكروفونات على الركاب أن يصعدوا.. تدافع الركاب من خلفه ومن أمامه . كانت الجثة قد غابت عن الأنظار . لم يطل النظر برجال الأمن من حوله قبل أن يصرخ هارباً : " ما اركبش الطيارة ديت .. ما اركبش .. " فانطلقوا وراءه فاختفى خلف سيارة كانت تربض بجانب طائرة مصابة بالسكتة القلبية . طوقوه فغافلهم وهرب من رؤوس أصابعهم . مع اشتداد هدير الأجنحة النفاثة صوته تلاشى . أصيب بالسكتة القلبية . كان يصرخ ويؤشر بيديه حزيناً . تزايد الراكضون وراءه . هددوه ملوحين بالمسدسات . لوح بيديه أن اقتلوني. وظل يركض على المدرج يلوح بيديه نحو الطائرة رافضاً. تزايد عدد الراكضين وراءه. أطبقوا عليه من كل الجهات. الطائرة لا تزال تنتظر . والصعيد غاف في مصر . الصعيدي مفقود بين الركاب . الصعيدي ملاحق . الكرسي الخالي ينتظر جسداً . وفراش زوجته حسنية قد خلا من رجل . جثة عادت إلى صعيد مصر وجثة تذهب. طار القلب فانكسرت أجنحة الصعيدي وأطبقوا عليه. وكلما اقتربوا به مقيداً من الطائرة يبتعد القلب . وكلما شدوا على يديه بقبضات من حديد تشدد حسنية أظافرها المنشبة في الوسادة . وكلما ضحك الناس في مطار القاهرة ، تهب الريح مع إطلالة الفجر الندي على صعيد مصر . وكلما سألوا حسنية أين زوجك ؟ تجيب سافر للعمل في بلاد بره . وزوجها مقبوض عليه بتهمة رفض السفر . كبلوا يديه ووضعوه كالمتاع على كرسي الطائرة . ربطوه لئلا يزعج المدرسين المسافرين، ورجال الأعمال. احكموا القيد من حول جسده . لم يبق شيء منه إلا ربطوه، سوى القلب لم يجدوه. طار القلب لمرأى الجثة العائدة . كان الصعيدي قد هددوه فانهدم . طارت الطائرة . حدق الصعيدي بعينين منكسرتين لعله يجده في صدره . لم يجده . عندما طارت الطائرة كان قد هبط القلب وعاد . عرف طريقه . وصار للقلب يدين تدقان على باب كل بيت وتوقظه. صار للقلب عينين تريان الوطن المقبوض عليه. والصعيد دق قلبه فانفتح . فاستيقظ على الوطن يتسرب من تحته، والقلب لا يزال يتجول، ويدق.

 

 

آن له أن ينفجر

 

 

 

حكمت المحكمة

 

 

بعد أن تداول عشرون قاضياً أمري، وبعد مشاورات وهمس ولمز ودسدسة ، بعد خلافات نشبت بينهم ، حول عدد السنين التي سأقضيها وراء القضبان ، عدد السنين فقط ، وبعد عشرين يوماً من المرافعات ، اجتمع القضاة كلهم على أنني رجل سيئ . وانهرت مرغماً بالضحك، ملء عمري، بالضحك، أو لم تعرفوا بعد أنني رجل سيئ إلا بعد كل تلك المداولات ؟ وهل هذا اكتشاف تستحقون عليه الرواتب التي تدفعها لكم الدولة ؟ إنني لرجل سيئ منذ أكثر من ثلاثين عاماً ، لقد فاتكم أن تقولوا : بالغ السوء ، إنني أيها السادة منذ أكثر من ثلاثين عاماً وأنا أفكر : لماذا أنا سيئ إلى هذا الحد ! لكنهم أكملوا النطق بالحكم : وعليه فقد حكمت المحكمة بالسجن مائتين عام وتساءلت : هل تكفيني المائتا عام هذه للخلاص ؟ يؤسفني أيها السادة أن أقول لكم مترافعاً أن حكمكم جائر . فانا خبيث وماكر وجبان وشرير وقاسي القلب ، دكتاتوري أكثر من فرانكو وهتلر وموسوليني إذا تمكنت من الضعفاء ، وملكي أكثر من شاه إيران إذا ما آلت إلي السلطة وقبضت يداي على كرسي العرش وغادر إذا انقلب لمصلحتي الزمان . وماذا أقول لكم بعد .. هناك الكثير الكثير يا للسخرية " سيئ " بعد كل هذا الانتظار لحكمكم الموقر وبعد شهر تقاضيتم فيه مبلغاً وقدره. سيئ فقط ! وأنا عشت عمري أبحث وأنقب وأتساءل وأفكر: لماذا أنا كل التهم التي يمكن أن توجه للإنسان في هذا الزمن، لماذا أنا كل هذا السوء مجتمعاً ! وكم من السنين احتاج للتطهر ؟ مائتين فقط ! .. إني استأنف إذن... .

 

 

خارجاً من الرحم:

 

 

زغردت القابلة " ولد.. ولد " فنهضت على الفور النساء المتحلقات حولها لطناجر الماء بحماس . وارتبكت بالفرحة يدا القابلة وهي تقطع حبل المشيمة . وبسرعة قطعته قبل أن ينقلب الذكر إلى أنثى، ليسرع أبوه لرؤية أعضائه كاملة، ومن ثم ليس المهم بعد ذلك أن يصبح المولود ثوراً أو معزة أو سحلية. ووسط قرقعة الطناجر ضاع صوتي الجميل . خفت . حاولت الرجوع . لكنهم سحبوني بعنف: أنت ذكر.. اخرج فكل امرأة تتمناك . وقبل أن استوفي احتياجاتي من دفء الرحم وهدوئه ، من هذا الاتصال بالأمومة والاحتضان ، قطعوا الحبل بين الذكر والأنثى ، بحدة آلمتني . صرخت ، تفعفلت ، بيدي ، برجلي ، لكنهم انقضوا علي بالقماط . قلت : يا جماعة أريد أن أتحرك ، أن اعبر عن فرحتي بالحياة ، فشدوا حبل القماط حول جسدي الصغير . وبعد أن شاهدن مصدر فرحتهن – النسوة – دخل المصدر حالاً في العيب. لكنني ما استسلمت، رفعت حاجبي وفتحت عيني لأرى أفق الحياة الرحب فامتدت يد ثقيلة تغمض عيني خوفاً من أعين الحساد.

 

لم استسلم ، أردت إغاظتهم بان أظل مبتسماً ساخراً من كرقعة الطناجر واصطدام النسوة ببعضهن ومن انشداد القماط وقطع السرة على عجل. أردت أن ابتسم محتجاً على ذلك كله وإذا بفم أبي يخطف ابتسامتي مقبلا وبشواربه الكثة تخرمش لحمة وجهي الطري ، انسدت في وجهي كل السبل ، فلم املك إلا أن افعلها بعنف وقرف ، وقد قالت الداية يومذاك حين حلت القماط : ولد .. ولكنه ولد سيئ .

 

وبعــــــد . . .

 

يا سادة .. ها أنا أمامكم، بعد أربعين عاماً أكاد افعلها من الضحك هل هذا كل ما اكتشفتموه ؟

 

عروض الشعر. .

 

قالت لي الشاعرة ( ن . م )، وأنا على أبواب التخرج من الجامعة: أذنك غير موسيقية، أن تحفظ العروض صماً شيء، وان تعرف بحر القصيدة بمجرد سماعها شيء آخر. لكنني تساءلت في شرود :

 

• سماع ماذا ؟

 

• قال الطلبة ضاحكين :

 

• القصيدة طبعاً

 

• قلت :

 

• ظننت سماع قرقعة الطناجر .

 

فقالوا جميعاً قبل أن يصرف أحد لهم رواتب:

 

• أنه ولد مخبول.

 

لكنني ما استسلمت، بدأت اقطع الأبيات واعرف البحور. أقطعها بقسوة وبقرف . وعندما يئست من حفظ التفاعيل والقصائد السيئة جداً قررت أن أتحدى الرسوب ، وان أضع ستة عشر بحراً في رقعة صغيرة من الورق ، وقد تألمت لهذا ، لأن البحر ازرق وجميل ، شاسع وعميق ، وأنا أحب البحر ، والزرقة ، إلا أنني أنا الفتى البالغ السوء حشرت ستة عشر بحراً بلون اسود في رقعة تافهة من الورق لكنني لم أحفظ أبداً شعراً رديئاً . وحين نظرت إلى درجة " امتياز " في شهادتي تساءلت: لماذا أنا سيئ ؟

 

ولمـــــــاذا . . .

 

اقتاد إلى النهاية، بكل هذه البساطة.. وانتم إلى بيوتكم وأمهاتكم وزوجاتكم وأطفالكم، أنا إلى السجن وانتم إلى الشواطئ وأنا مازلت أمتلك كثيراً من أدلة الإدانة. ولم تسمعوا منها شيئاً بعد ، سوى ما قاله المدعي العام؟

 

ولماذا اقتاد إلى الظلمة والجدران وانتم إلى الأضواء الساهرة والسماء الحافلة بأحلامكم والزرقة التي أحب ؟ وحاولت أحب ...

 

أكثر من فتاة .. أكثر من امرأة ..

 

قالت المتأدلجة تواً :

 

الظروف الموضوعية تتغير، فلماذا لا تحاول أن تكون إنسانا ؟

 

وكانت تنظر إلى ساعتها لئلا يحين موعدها مع الآخر. وكنت أحببتها بالأمس وبدأت أكرهها اليوم .

 

وأكملت :

 

مثلاً أحمد .. لم يكن يلتفت الي مع أنني أحبه ، الآن بدأت الغيرة تنهش قلبه .

 

لم تفطن وهي تنظر في ساعتها إلى انبعاث عباراتها في ملامحي قرفاً واشمئزازاً وأن حنانها ولطفها معي بالأمس اكتشفه بمرارة اليوم ، كجزء من كوني ظرفاً موضوعياً ، بالأمس صدقت ، حاولت أن أكون طيباً معها ، وكانت تتجاوب بسرعة الدفء والحنان الذي غمرني تلك التي قمطني حبها بالأمس بحنان ما زلت أخسره وأخسره كل مرة .. لماذا .. هل لأنني قلت لها فجأة مكتشفاً انبعاج أنفها:

 

أن لها منخار عظيم ؟

 

وكانت عاشر فتاة.. رابع إمرأة ، تشهد أنني فج ووقح .

 

ضمائر في طريقها إلى البيت :

 

همس احدهم لزميله وهم ينهضون عن المنصة:

 

- هل أطلعت على التقارير الطبية ؟

 

- سليمة.. المتهم بكامل وعيه .

 

- أشك في هذا .

 

- صدمة الحكم ليس إلا

 

- أنه يضحك.. يقهقه بفتور ولا مبالاة عجيبة .

 

- نسأل عن حالته العقلية مدير السجن .. ليرتاح ضميرنا .

 

- هل سمعته .. انه يقول لدى موبقات أخرى.

 

- ابن الزانية .. كيف فعلها واعترف .

 

- الغريب انه لم يوكل محامياً ..

 

- القضية واضحة .. والتقارير

 

- لكن .. ألا يدافع عن نفسه .. فقط يبتسم ويصمت !

 

الأطباء.. اللعنة ، كان بإمكانهم بقليل من الإخلاص أن يخدموه .

 

الأمنيــــــــــــــة:

 

حين قال لي مدير السجن أنني رجل طيب، واستدعى الطبيب حالاً لاستجوابي، قلت له أنني جئت لأنفق بقية حياتي بحثاً وتنقيباً وتساؤلاً عن إمكانية تحقيق ما تفوه به ، فقال موجهاً كلامه للطبيب :أسرع دكتور.

 

الخــــــــلاص :

 

- أنت جامعي ؟

 

- جاي معك .. لكن إلى أين ؟

 

- لا .. إسمعني جيداً أرجوك.. إني أسألك هل أنت خريج ؟

 

- فقعت من الضحك . قلت :

 

- وبعنف يا دكتور.. رغم أن هذا اكتشفته الداية قبلك لشدة أسفي .

 

- تخرجت بعد ولادتك مباشرة إذن ؟

 

أفطسني من الضحك هذا الدكتور .

 

إني أتساءل إذا ما كان السجن هذا وبكل قدرتهم على إضحاكي سيجعلني أنسى حرقة الدموع وكآبة الملامح طوال أربعين عاماً

 

قلت بعد أن تمالكت نفسي:

 

- أعد السؤال من فضلك .

 

قال بصوت مسموع وهو يهز رأسه بأسف :

 

- تخرجت بعد ولادتك مباشرة ؟

 

- اسأل الداية نفسها .. لو ما تزال على قيد حياتكم، لكانت الشاهد الوحيد على صحة أقوالي. والقماطات أيضاً ؟

 

- القماطات ! أهذه شهادة جامعية ؟

 

- بذمتك.. هل هذا سؤال ؟

 

بدأت أشك في سلامة عقل الدكتور الذي كلف باستجوابي . إني أعرف أن المتهم يظل تحت الاستجواب والسين والجيم قبل صدور الحكم. لكن وقد صدر. فما سر استمرار هذا ؟

 

سجل الطبيب ملاحظات غامضة في ورقته ، ثم غمز مدير السجن بطرف عينه . فاقتادوني إلى غرفة خاصة ، وبالتالي حرمت من مشاركة البشر في المهمة التي ولدت من أجلها . وبقيت أتساءل طوال الأسبوع .. لماذا أنا بالغ السوء، لماذا أنا كل هذا ؟

 

عاد الطبيب وسألني بعد فترة بدقة متناهية :

 

- هل جربت أن تسمع السيمفونية التاسعة ؟

 

- وسط قرقعة الطناجر ، ومشاعر الظرف الموضوعي ، ونواح أمي المتصل كالزمن ، كيف بالله عليك تريدني .

 

- أقصد في غرفة، منفرداً.. أو في احتفال .

 

- قطعوا الحبل السري بيني وبين غرفتي قبل.. لا أذكر بالتحديد فكلها اتصال ، كما يسيح الزمن في لوحات سلفادور دالي . والاحتفال قرقعة طناجر .

 

- أي طناجر ؟

 

- طناجر الذكورة . ومناسف الرز

 

- أي ذكورة ؟

 

- التي في العيب دخلت ولم تخرج

 

- لماذا ؟ ( وقد بدأ يبتسم لأول مرة ).

 

- لأنك تاكل لقمتك من أسئلة تافهة ، وتعطل المهمة .

 

- لا شك أنك ظريف

 

- لأنك أعمى

 

- لا تريد ؟

 

أنا سيئ .. ليس ظرفاً أن تدخل ستة عشر بحراً في ورقة بال عليها ذباب دبق ، مثل أسئلتك !

 

- كفى .. كفى ..

 

وكتب تقريره النهائي بعد قياسات لحجم رأسي الذي هو حتماً أصغر من طنجرة ، ولدقات قلبي التي ما تزال تدق سيمفونية الظرف الموضوعي والقلب يضخ قاذورات العالم في جسد آن له أن .. آن له أن .. أصيب بصدمة أدت إلى اختلال عصبي .. في جسد ان .. في حب للحياة للعشق للمحبة ، حلق الطير فطارده الصيادون ، وهزئ الأسد بالرصاصة فانطلقت في جبينه فخر صريعاً . كتب تقريره النهائي .. مجنون.. القلب الذي يضخ.. قلب العربي .. أنا ، المجنون العاقل في قلب ما زال يضخ قاذورات العالم ويحلم بالحب والتساؤل .. في جسد ، جسد آن له أن ينفجر من القماط

 

 25 / 6 / 1981

 

 

فاطمة الجميلة أكثر

 

 

- وكيف حالك هذه الأيام ؟

 

• لا أدري تماماً ، الأمر متوقف على نشرة الأرصاد الجوية في مدريد .

 

- أنت لا تتابع إذن نشرة الأرصاد المحلية .

 

• بلى أتابع باهتمام أسعار النفط والاستراجية النووية الأمريكية وأخبار بريزنسكي .

 

- وأحوال الأهل .

 

• كنت عندهم قبل قليل لكنني لا ادري من زارهم بعد مغادرتي، سيظهر هذا من حالتهم النفسية في اللقاء.

 

- ألم تتحسن أحوالك منذ افترقنا.. ؟

 

• الأمر متوقف على أحوالك أنت . كيف ترى ؟

 

- وما العلاقة ؟

 

• إنني شاهدت النبتة في اص لدى الجيران

 

- هذا حين افترقنا.

 

• أجل .. فقد سقطت ورقتان من أسفل وظهرت لها أوراق خضراء جديدة.

 

- أفهم أن كلانا يتغير .. لكنني أسألك إلى أين وصل بك التغير.

 

• البحث عن عمل كما أظن لن يفيدك كثيراً .. الأعباء هي التي تتغير أما قسمات الوجه أمام مدراء ورؤساء التحرير فتبقى جامدة مع اختلاف كثافة الطوز والرطوبة في شعرك وقسمات وجهك .

 

- هل تركت عملك السابق ؟

 

• أبدا .. تغير نوع المقعد الذي أجلس عليه وتوقيت سؤال المارة عن الساعة .

 

- مكان عمل أقرب !

 

• ليس تماماً . اختصار لعدد المرات التي تقف بها على إشارات المواصلات.

 

- والوقت أيضاً . أليس كذلك ؟

 

• ساعات النوم لم تزد على كل حال .

 

الكوابيس نفسها .

 

- ألم تصلك رسائل من شقيقك الذي يدرس في مدريد ؟

 

• ...........

 

- ولماذا لم تزرنا ؟

 

• ذكرتني بموعد استلام الثلاجة من ورشة التصليح .

 

- هل تعني الوقت ؟

 

• على الإطلاق .. لكنك بهذا السؤال ذكرتني بالأقساط المستحقة.

 

- ستزوروننا أليس كذلك.. وتحضرون الصغيرة معكم .. امرأتي تقول أنها جميلة ،

 

• من ؟

 

- ابنتك يا أخي ؟

 

• .. أوه .. نعم . حين .. الظروف يا أخا العرب ..

 

- ماذا جرى لك .. هل أنت متعب ؟

 

- على الإطلاق .. اليوم ؟! على الإطلاق .التركيز.فقط التركيز .

 

• لديك متسع من الوقت .. فايق ورايق !

 

- ماذا قلت .. هل ننتظركم غداً ؟

 

• .........

 

- سننتظركم بعد الثامنة مساء . لا تنس . بعد الثامنة مساء . وتحضرون الصغيرة . سيكون لدينا بعض الأصحاب . سنعرفكم عليهم. تعرف البيت أليس كذلك خذ هذا الرقم. اتصلوا بنا لنتأكد من عدم نسيانكم في الصباح . انتظر مكالمة منك . أو من المدام . زوجتي مشتاقة لها كثيراً . لا تنس أن تبلغها تحياتنا.

 

• اجل .. اجل ..

 

- أين ذهبت . أنت لم تأخذ ورقة التلفون بعد . هل لديك قلم . كفى أنا لدي. ورقة. عزيزي. ورقة . قليلاً. آه .. هذه ورقة سجل . ما هذا . هل يوجد رقم تلفون من أربعة أرقام، ثلاثة أصفار وليس ثلاثة. ننتظر أليس كذلك. في الثامنة مساء غداً . ماذا جرى . أنت مرهق . تعطيني الورقة وتضع القلم بجيبك . ماذا دهاك . واحضروا الأمور الصغيرة . لا تنس .

 

• سلاماً. سلاماً ..

 

- هل تعرف الشقة .. شقة 17 . الاسم مكتوب على الباب .. سترى السيارة تحت ، ها .. ؟

 

• 17 ؟

 

- تسجله ؟

 

• لا .. الأمر سهل . لو كان 15 لكان أسهل.

 

- إلى اللقاء يا عزيزي.

 

• سلاماً.

 

مضى وحيداً مرة أخرى . " 17 .. غداً .. تلفون ثلاثة أصفار.. ثامنة .. 17 .. الاسم .. الصغيرة ".

 

لكنه لم يسأله أين يقع بيتهم الجديد . لقد انتقل إلى بيت جديد . إلى منطقة جديدة كما يظن .ولكن هذا هو رقم التلفون . ظل مشغول الذهن .

 

الثامنة.. تلفون ثلاثة أصفار.. غداً مواعيد بدء الدراسة في جامعات مدريد . ارتفاع أسعار البترول. موعد إقفال البنك. المحاسبة في الشركة . التوقيع على ورقة الانصراف . الاستيقاظ مبكراً غداً . الإنذار الأخير بتسديد. إحضار الثلاجة . انتهاء الماء . فواتير الكهرباء . شراء حليب . اشتقنا . الثامنة . الصغيرة. . دواء الصيدلية المناوبة . الجيران . الوقوف اختناقاً . الباص . النزول . التوقيع. يا.. التوقيع . الدكان.. المخبز ، 12 .. 13 " .

 

وجد مصف السيارات في الشركة خالياً .

 

أحس بالوقت . سأل الفراش عن الساعة .

 

- الثانية والنصف .. ازدحام كثير بالمرور ؟ ما الذي أخرك ؟

 

• كالعادة. صادفت بعض الأصحاب هناك .

 

اقفل راجعاً في البيت قالت له:

 

- جاء ابن خالتك

 

• ....

 

- أمك مريضة ..

 

• مرة ثانية . وما أخبار الهدم ؟

 

- يبدو أن العلاج لم يفدها .

 

ناس.حالا فكر " بيت عزاء. ناس . أقارب . بكاء . أطفال. فوضى البيت. رعاية الوالد .. ثلاثة أيام عزاء. رسائل . عدم إخبار مدريد . ومقبرة . رد الشعور للمعزين .. ورد الأفراح . بيوت للعزاء . بيوت للأفراح. قهوة . اقارب . كلام . وكلام. وكلام. ومواعيد استلام صورة الأشعة. ومواعيد المراجعة . مبكراً.. مبكراً . رقم الجناح . الغرفة . لوازم. لوازم . البيت.. البيت . الصغيرة. الأطفال ".

 

- ماذا قلت ؟

 

• لا شيء..

 

- ماذا نأخذ معنا ؟

 

• لا شيء.

 

- النقود ؟

 

• اجل بالطبع .

 

- هل قبضت ؟

 

• غداً

 

- من أين إذن ؟

 

• ليس لديك ؟

 

- سددت .. للجارة

 

• إذن.. نذهب وغداً ..

 

- ألا ......

 

• على الإطلاق .

 

- إذن !

 

• لا تفعلي شيئاً

 

- نسيت أقول لك .

 

• الحليب !! غداً .. الثلاجة غداً.. الكهرباء غداً .

 

- لا .. حضر صاحبك .. يقول انه في الساعة السابعة غدا، ندوة في مقر.. نسيت الإعلان في الجريدة على كل حال .. ندوة عن كامب ديفيد وهو مشتاق لك .أوصى أن نذهب. وان ....

 

• نحضر الصغيرة معنا وأن.. يا للبطالة !

 

- ماذا قلت ؟

 

• أقول يا للبطالة.

 

- يعتب لأننا لا نحضر ندوات الاتحاد.

 

• هل انتهت أكياس الزبالة . وما هذا ؟

 

- لعبة لبنت الجيران . قبل قليل كانت تلعب مع فاطمة.

 

• اينها .. نامت .. ؟

 

- لعبت اليوم كثيراً . فرحت باللعبة .

 

دخل الغرفة شاهدها مسدلة الجفنين مبتسمة. تذكر . تأملها . فعلاً جميلة . ملامحها هادئة . انفها صغير . فمها كفم العصفورة . وتبتسم . إنها تبتسم . وجميلة جداً . أمورة فعلاً .

 

- ماذا جرى ؟

 

• انظري .

 

- إنها نائمة ..

 

• إنها جميلة .. انظري

 

نظرت إليه باستغراب .

 

- إنها جميلة منذ ولدت . الم ترها غير اليوم . صار عمرها ثلاث سنوات قبل أسبوع.

 

• كانت جميلة هكذا ؟

 

- ماذا حدث ؟ قبل شهر كانت أجمل

 

• حقاً ؟ تذكرت . اتصلي غداً . خذي هذه الورقة . اتصلي بفائدة زوجة احمد . واشكريها .

 

- على ماذا ؟

 

• اعتذري لها عن الموعد . لا تقولي لها أننا لا نعرف بيتهم. فقط اعتذري عن موعدنا معهم . الظروف . واشكريها واحمد . لقد لفت اليوم نظري إلى فاطمة . انظري، قال لي أن زوجته تقول أن فاطمة جميلة. تصوري ! لم تقل أنها جميلة جداً .

 

. . .

 

بانتظار الباص قالت وقد لاحظت شروده :

 

- فيم سرحت .. أما تزال تذكر ما قالته زوجة احمد ؟

 

• خدعني هذا المخلوق ..

 

قالت مبتسمة :

 

- كيف ؟

 

• بأسئلته عن أحوالي، وأحوال الأهل، وشقيقي. ما كان يحق له أن يسأل مثل هذه الأسئلة الودية جداً.

 

- حقاً .. لماذا لم يزوروننا، مرتين ذهبنا عندهم، ونخرج محرجين من توصيلهم لنا.

 

• وفي المرتين نخدع، ألا ترين أن حرارة دعوتهم الأولى لنا كانت مرتبطة بأثاثهم الجديد، والثانية بشرائهم سيارة.

 

( ضحكت مشددة قبضتها بدفقة حب غامرة على يد فاطمة ) .

 

هذه المرة يدعونا لرؤية الشقة الجديدة.

 

قالت :

 

- أنت سيئ الظن بالناس . زوجته كثير لطيفة .

 

• لم اقل أنهم غير لطفاء . لكنهم نقلوا من شقة بمائة دينار إلى أخرى جديدة. ( ضاحكة من خبثه ) :

 

- ماذا تريدهم أن يفعلوا.

 

( غام وجهه بالضجر لعدم فهمها له . فقرر أن يكون أكثر وضوحاً ).

 

• الناس يذهبون للمحاكم لئلا تضاعف أجرة بيوتهم من خمسين دينار إلى أكثر. أما احمد فيزعجه كون شقتهم تضيق عن اتساع غرفة نوم بألف دينار. وكون جيرانهم فلاحين .

 

- ما الذي يضايقك في هذا.. هم أحرار .

 

• إلا في أن يخدعوننا مرة أخرى.

 

- يكفي أنهم محرومون من الأطفال . تريدهم ألا يفرحوا حتى بهذه المظاهر ! ( كمن يفيق من كابوس ) :

 

• ماذا ؟

 

- لم يبق طبيب إلا وذهبت فائدة عنده.

 

• تقصدين ...

 

- نعم .. فاترك الناس بحالهم .

 

( محتقناً بالسخط، وباكتشاف جعله يفقد السيطرة على مشاعره، جعل يضحك بهستيرية خالطتها دموع متيبسة ورغبات مقتولة ).

 

وكانت فاطمة الصغيرة تضحك مع انهيار مقاومة والدها لضحك استمر حتى بعد توقف الباص، وتظهر أسنانها الصغيرة فتزداد ملامحها.

 

1980

 

 

كبش بلا أسنان

 

 

يا شطار في قديم الزمان .. وكان يا مكان . كبش عجوز وحيد يراقب بصمت من مخبئه سهولا مترامية الأطراف . كبش وحيد في عزلته / يعد السنين، وملايين من قبله ذبحت. كبش أنهكه الركض خوفاً من الذئاب .. وجد نفسه ذات يوم يتخلف عن القطيع ولا يسأل عنه أحد. لجأ إلى كهف في سفح الجبل . استعاد في عزلته أنياب الذئاب التي رآها ، حادة كبيرة قاسية مدببة . عندما رآها أول مرة ذهل تماماً وعندما تكرر المشهد آلمته الخراف التي تمزق لحمها . قلت ساعات نومه . صار يرى الأعشاب أنيابا . أقفلت شهيته. تساقطت يوماً بعد يوم أسنانه. ظل معتكفاً تؤرقه الدماء.وأنياب تسح منها الدماء .

 

وذات يوم يا شطار اجتمعت الخراف سمينها بهزيلها ، وصغيرها بكبيرها ، لتناقش أمر الذئاب الأعداء . في البدء ألقيت الخطب والقصائد . وهتفت عشرات الخراف " الموت للذئاب .. الموت للذئاب " .. كان الكبش يا شطار يراقب الحشود من مخبئه حزيناً في ذلك الكهف المطل على السهول الخضراء . وكان يسمع ضجيجهم .. ويفكر كيف .. عميقاً عميقاً. بصمت تؤرقه الأنياب ..

 

في الاجتماع يا شطار .. اتفقت الخراف أن تعمل سوياً دون تفرقة بين أسود وأبيض، وبين سمين وهزيل. وكان القرار .. أن تنقض دفعة واحدة بأسنانها على الذئاب إذا خرجت . فرحت للقرار . نطت ، رقصت ، غنت لساعة الصفر المقبلة .

 

وانفض الاجتماع على أن يخبر الحاضر الغائب والداني القاصي وانتشرت الخراف في السهول والبراري تخبر بعضها بعضاً وتبلغ القرار.

 

- 2 -

 

كان الكبش العجوز قابعاً بمفرده . محصناً في عزلته . فلما وصلوا ليعلموه بالأمر خرج إليهم متوقفاً عن عمله. خاوياً هزيلاً . يداه معفرتان بالتراب .

 

قالوا بعتب : أما سمعت النداء ؟ فلما هز رأسه الأشيب ، قالوا :

 

- ليس علينا على أي حال سوى أن نبلغك بالقرار.

 

وكان الكبش آنذاك عطشاً جائعاً منهكاً يتأمل أبدانهم الممتلئة ووجوههم المتوردة وصوفهم الكثيف

 

- أيها الكبش يا ابن ملتنا المنكوبة، لقد اجتمعنا اليوم من كل حدب وصوب.. وكان الكبش يا شطار منهكاً ، لا يطيق سماع الخطب ، قاطعهم ل .. فقاطعوه طالبين منه أن يخرج من مخبئه ليقابل معهم الأعداء .

 

قال بألم :

 

- وماذا تطلبون مني أن أفعل ؟

 

- أن تلتزم بالقرار .

 

- أي قرار ؟

 

- أن نهجم على الأعداء مرة واحدة بأسناننا وأيدينا وأرجلنا.

 

فحزن الكبش الحزن الأشد . عجوز دعكته السنين .. وبلا أسنان يدافع بها عن نفسه .

 

لكنه سألهم :

 

- هل رأيتم أنياب الذئاب ؟

 

فصمتوا جميعاً . فحزن الحزن المر .

 

قالوا: أيها الكبش العجوز ماذا قررت ؟

 

فقال :

 

- ألا ترون أن ليس لي أسنان أخوض بها المعركة ؟

 

- تقاتل بيديك وقدميك .

 

قال : يداي لعملي .. أنحت في الصخر كما ترون.

 

قالوا : بقدميك .

 

فابتسم العجوز من فكرة أن يدير للأعداء قفاه.

 

فنظروا إليه نظرة ازدراء حزت قلبه، ثم انصرفوا يهمهمون وتهتز اقتفيتهم السمينة. وانصرف هو إلى عمله ينحت الصخر بيديه . تشغل مخيلته ملايين الخراف التي ستنهشها الذئاب من بعده . وتدمي قلبه صورة صغارها الذين سيولدون لحماً بما يفكر فيه ، ولا يشغلهم ما يشغله ، أو يؤرقهم ما يؤرقه . انصرفوا عنه قائلين .

 

- عجوز جبان .

 

- متخاذل.

 

- أناني.

 

فظل حزيناً، في عزلته احتشد الماضي والحاضر والآتي. وكلما مروا به يسألهم :

 

- أرأيتم أنياب الذئاب ؟

 

فيسخرون منه قائلين :

 

- لو رأينا أسنانك لرأيناها.

 

ويزداد الكبش يقيناً أن الخراف لم تر ما رآه ، فينكب على عمله يحفر بالصخر خروفاً مكتنزاً يغري ناظره بالذبح . وعندما تمر به الخراف وتراه منكباً على عمله تهزأ قائلة :

 

- انظروا العجوز الخرفان.. يظن نفسه فناناً يستطيع أن يصنع خروفاً لا يغني ولا يسمن من جوع. ولا يصد هجمات الأعداء .

 

لكن الكبش تمسك بعزلته أكثر . لم يكترث بما يقولونه . وكان كل يوم يحفر قليلاً في الصخر . وينهكه العمل بمفرده كثيراً .

 

- 3 -

 

خرجت إليهم الذئاب وحانت ساعة الصفر.. وسمعت ضوضاء وجلبة وثغاء معذب، فاشتد الحزن بالعجوز، وعرف أن ما رآه وأرقه طيلة السنين الماضية تراه الآن الخراف في وقت متأخر. وكم كانت أنياب الذئاب في ذلك الليل الطويل مؤلمة حادة تمزق اللحم عن العظم . وظل الكبش وحيداً في اليوم التالي . لا يؤنس وحدته سوى الكبش الصخري السمين قبالته يعمل فيه يديه وأحيانا يحاوره أو يحدثه عن المأساة . فلما أحس الكبش باكتمال عمله خرج حذراً من عزلته ليجلب لخروف الصخر جلداً حقيقياً من تلك التي لا تعد ولا تحصى . وضع الجلد على الصخر العاري وأحكمه ليبدو للناظر خروفاً كآلاف الخراف. لم يهتم حينذاك بأن يجعل له أسناناً .

 

- 4 -

 

مرة أخرى خرجت الذئاب تطارد الخراف الباقية المذعورة . وفي أنيابها مذاقات الأمس للحوم شهية يلذ أكلها .

 

دخلت الذئاب إلى مخبأ الكبش الذي أتم عمله، فوجدته ضعيفاً وهزيلاً ما كادت تضربه حتى تهاوت قوائمه النحيلة على الأرض، لكنه كان قبل أن بلفظ آخر أنفاسه ينظر إلى الخروف الذي نحته مبتسماً. وعندما انطلقت الذئاب واحداً تلو الآخر لتنهش الخروف المكتنز بدأت أنيابها الحادة تصطدم بشيء صلب وتتحطم. فتعيد الكرة تلو الكرة . وتتحطم أنيابها ورؤوسها وتتهاوى واحداً تلو الآخر .. وتحاول مرات ومرات بمخالبها الحادة فتتحطم مخالبها . وحين عادت الذئاب بلا أنياب وبلا مخالب قالت: إن لحم الخراف قاس مثل الصخر. فلم يعد لحم الخراف شهياً ولذيذاً . ويوماً بعد يوم ، صارت تعتقد الذئاب أن الخراف تحطم الأنياب وتقلع المخالب وتدوخ الرؤوس . وظلت الذئاب محطمة الأنياب توصي أبنائها جيلاً بعد جيل بألا تقترب من الخراف. وساد بينها اعتقاد بان الخراف لا لحم لها . ويوما بعد يوم وسنة بعد سنة صارت الخراف أقل خوفاً. وذات يوم يا شطار شاهد ذئب أنياب الذئاب التي تحطمت ملقاة بجانب الخروف الصخري . فهاله ما شاهده وفر هارباً، وكان كلما شاهد ذئباً من بني جنسه يقول له " الخراف تأكل الذئاب وتلقي بأنيابها الكبيرة على الأرض ".

 

فلما شاهدت الذئاب ذلك فرت هاربة . وكلما كانت تشاهد خروفاً يحل بها الذعر وتولي الأدبار . فتقهقه الخراف وتضحك من الذئاب . ومع مر الزمان يا شطار، تختفي الذئاب، وتعيش الخراف بسلام على السهول الخضراء، فقد كان ما صنعه الكبش العجوز صخرا ملتحماً بجبل صلد.

 

أيار 1980

 

 

فهرس

 

صالح صلاح يتسلم رسالة من والده

 

أحمد حسن

 

الطبوش

 

صباح الخير أم الخير

 

حميد يدخن سيجارته بهدوء

 

حلم العصافير مضى

 

كان طفلا

 

كان الصعيد غافيا

 

آن له أن ينفجر

 

فاطمة الجميلة أكثر

 

كبش بلا أسنان

 

جميع الحقوق محفوظة ويشار دائما للمصدر سواء الكتاب أو موقع الكاتب الإلكتروني

 

 أو حركة إبداع http://tayseernazmi.com http://nazmi.org http://tnazmi.com http://nazmi.us http://nazmis.com  بريد إلكتروني: Mailto:tayseernazmi@yahoo.com

  free counters



 
       1     2     3     4     5     6     7     8     9    10  

 11    12    13    14    15    16